في الإصدار الجديد «السفن العربية» الصادر عن «الوراقون» التي يديرها الزميلان الرائعان، محمد بوحسن، وميساء الأنصاري، نقف على حلقة من سلسلة ممعنة في اختلافها ورصدها. عينان لهما صفة الرؤيا قبل الرؤية. عينان مضمّختان بضوء الروح ونهاراته المفتوحة على الجهات والمهن والصنائع. عينان ألفتا هذا الإشتغال المضني على يسْر الحياة ورفاهيتها معا وإن لم يطل أصحابها شئ من ذلك اليسر والرفاهية.
خرائط الماء
في شهوة الطرْق... ثمة سبيل من ماء ستعبره تلك التي مَجُلَتْ أيدي الرجال في سبيل أن تأخذ طريقها إلى الماء.
ثمة خديعة في الذروة من البهاء تمارسها العدسة في التقاطها الشاعر ... الحساس، من خلال تورّطها في تفاصيل غاية في الدقة والحرج ربما. لماذا الحرج؟ ثمة بشر يصنعون أسرّة تمخر الماء، ويراهنون في الوقت نفسه على سلامةٍ في حكم الغيب. سلامة لا يملكون الأدنى من تفاصيل يقينها.
هذه صنعة تتحدّى الغدر الناعم. تنشغل بالتفاصيل. تكاد تتيقن أنها لم تترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصتها في موضوع تسلّل/ تلصّص الماء في اللجّ. في هندسة من معرفة وعفوية في الوقت نفسه، يتسلّح القلاف بـ «خرائط الماء» و «خرائط الإنفعال» و»خرائط اللجّة» تمنحه القدرة على حفظ تلك التفاصيل عن ظهر قلب. لأنه بالحفظ ذاك يدشن خديعته في مقابل: خديعة الماء، الإنفعال، واللج!.
نوايا الماء
لكأنَّ الأشرعة البيضاء أكفان تواجه «المحتمل والغامض» من نوايا الماء... لكأنها راية مهادنة أمام الريح... وأحيانا كأنها رماح غامضة تتكئ على الصواري السمراء الشبيهة بسواعد الرجال الذهبين إلى غموض ممعن في ثقته.
الأيدي المزدحمة بالأخاديد (أخاديد الممارسة والسهر) تحيلك إلى «ألف باء» العناء الذي لا يلتمس مخرجا من فاقته أو «ورطته» بقدر ما يلتمس طريقا يقيه صدمة الفشل. أن يظل ساهرا على انشغاله بالدرس: درس الطرْق، وسد منافذ التلصّص. تلصّص الماء على بشر أسلموا أرواحهم لربّان ضالع في غموض الجهات ومناوراتها، كما هو ضالع في يقين يحدث أحيانا أن يسلمك على المهالك!.
الأرواح المعلّقة
ماذا يعني أن ينزع المرء إلى الخروج على نظام «اليابسة» والدخول في عضوية «الماء». لكل منهما شرطه الحيوي. لكل منهما شرطه ومفاتيح ولوجه وخروجه. الطمأنينة في اللب، إن لم تكن في اللج من الممارسة. لا يتذكر الصانع وهو يحقن الخشب بالقطن والمسامير سوى أرواح معلّقة بين حضوره وغيابه... ذاكرته وسهوه. أي طرْقٍ خارجٍ على المألوف يعني قذفا بالأرواح في الجحيم المفتوح على المجهول والوحوش وطوفان الملح!.
تحسّس فرائص الجهات
لم تدرْ البوصلة في خُلْد منشئ «سرير الماء وحافلته»... كل الجهات لديه تفضي إلى اليقين من الوصول... إلى اليقين من الموانئ... إلى اليقين من التلويح عن بعد. لا مكان للبوصلة في مخيلة فتية آمنوا بمجازفاتهم فزادتهم هدى. هدى المضيّ إلى حيث اللامكان واللاجهة واللاتلويح لأحد. لكن ثمة من يضع هذا المسبار الدقيق لتحسس فرائص الجهات وأنوائها، سعيا وراء تخليص ذمته من ضلال المكان... ضلال وهشاشة اليقين ... طود من ماء يباغتك كلما استشعرتْ الطبيعة حاجة ما لنفث قلقها وعدم استوائها ورضاها عن الهامد والمتخثر والسكن.
حرَس المخيّلة
للسفن حرس في مخيّلة أصحابها ... حرس من بيان، أو حرس من أدلاّء. دروب هائجة مائجة. حرس تستعيذ من شيطان البحر وسطوته وغدره، وعلى أقل تقدير: مزاجه المتقلّب. البحر مريض بأنوائه. من يجرؤ على إدخال البحر في محجر نفسي؟ المعادلة تقول خلاف ذلك. يظل البحر متفوّقا على مستوى المعادلة في مستويي الزمن والمتاريس الحادة الرهيفة والمسنّنة بنعومة خادعة، إذ تحيل الصروح قاعا صفصفا.
هندسة «الكمان/المكان»
كأنه ينزّه نفسه بعزف يذهب عميقا في أواصر الخشب. بين اجتراح اللحن بسحب عصا الكمان جيئة وذهابا ضمن «دوزنة» لها معادلتها الرياضية، يذهب «المجدح» أو «المثقب» باتجاه دوزنة من نوع آخر. دوزنة البحث عن مأوى يقيم أواصر بين المسمار الصلف والخشب المستسلم للهيئة التي يراد له أن يكون عليها. كمان/ مجدح حادّ بحدّة أخاديد اليد التي تسيّره كي يصيّر الهيكل المهيّأ لمواجهة العصف.
العدد 1945 - الأربعاء 02 يناير 2008م الموافق 23 ذي الحجة 1428هـ