أرسل الإمام علي (ع) لواليه على مصر مالك بن الحارث الأشتر عهدا رائعا أوضح فيه الأهمية الكبرى للحكومة - أي حكومة - في أن تطمئن لموقف شعبها، وذكر السبب وراء أهمية هذا الأمر، فأمر مالك الأشتر أولا بالسعي لتحصيل ثقته في الشعب في قوله: «فليكُن منك في ذلك أمرٌ يجتمعُ لك بهِ حُسنُ الظّنِّ برعيَّتِكَ» والسبب والأهمية هو كما يقول (ع) «فإنَّ حُسنَ الظنِّ يقطعُ عنك نصَبَا طويلا»، فكم يكون مرهقا للحكومات والأنظمة حين تقع في إساءة الظن بفئة من شعبها، فتصرف الملايين من أجل أن تحسب على المعارضين أنفاسهم، ورصد تحركاتهم.
ثم يوضّح أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) أهم وسيلة للحكومة حتى تكسب ثقة الشعب وولاء مختلف فئاته وطوائفه يقول الإمام فيه «واعلم أنه ليس شيء بأدعى إلى حسن ظن راعٍ برعيته من إحسانه إليهم، وتخفيف المؤنات عنهم». فالإحسان السبب الأكبر لكسب الثقة والولاء، فمن أكْرَمْته وحبوته بالنعم، فهو أقرب أن تحسن به ظنا، لهذا قال (ع) «وإنَّ أحقَّ من حَسُنَ ظنُّكَ بهِ لَمَن حَسُنَ بلاؤُكَ عنده» (البلاء هنا: الصنع مطلقا حسنا أو سيئا). فهذه هي القاعدة، فأكثر الناس أسوياء، تميل قلوبهم إلى من يحسن إليهم ويقضي حوائجهم، وما عدا ذلك محسوب من الشواذ الذي لا يُعتد به. وقد حُكي أن ذا القرنين بعد أن سيطر على الكثير من البلدان، قال لأستاذه أرسطاطاليس: انصح لي، فقال: ملكتَ البلاد بالفرسان فاملك القلوبَ بالإحسان. وفي القول المأثور «الإنسان عبيد الإحسان».
ولكن هناك فئة من الشعب تخافها الحكومة - أي حكومة - وتسيء الظن بها، وتتعامل معها بحذر، بل وتلاحق الناشطين فيها حتى لا يحدث ما تتوقعه من تحركات ضدها، فمن هي هذه الفئة وما السبب الذي يستوجب إساءة الظن بها؟ مرة أخرى يجيب الإمام علي (ع) بقوله: «وإنَّ أحقَّ من ساءَ ظنُّكَ بهِ لَمَن ساءَ بلاؤُك عنده» فمن أسأت له صنعا ومنعته حقه في الحياة الكريمة، وضيّقت عليه رحب الفضاء، هو الذي ينبغي لك أن تخافه ولا تثق فيه. فضعف ثقة الحكومة في هذه الفئة وعدم الاطمئنان لها، يعود لما تلاقيه من اساءة من قبل حكومتها. وضعف الولاء بمعنى المحبة والنصرة، - غالبا - نتيجة طبيعية لعدم الإنصاف، ولو ساد الإحسان والعدل، لحرص كل الناس - إلا الشاذ منهم - على دعم الحاكم حتى لو اختلف دينهم عن دينه، لقول الرسول (ص) «المُلْكُ يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم»، وحينها لن يعارض ويشاغب النظام الحاكم سوى الباحثين عن التمّيز، الساعين لتحقيق مصالح مادية ومكاسب شخصية، لا ينالونها إلاّ بحصول التناقض والتنافر بين الحكومة وبين الشعب أو فئة منه.
أخيرا، فان الملفات كثيرة، كملف الدستور والتجنيس والتمييز وحقوق ضحايا الحقبة الماضية، إلا أن طلب وظيفة تحفظ للفرد كرامته وتسد حاجته ملف لا يحتمل التأجيل. ومن يتوفر على راتب جيد، وينتظر بيتا من الإسكان، وملتزم بدراسة، وله عيال... مثل هذا الفرد سيكون موقفه من الحكومة يختلف عمن ضاقت به سبل الحياة، وسدت في وجهه أبواب العمل الشريف، يتحسر على شبابه الذي يمضي سريعا وهو عاجز عن فعل شيء لنفسه، أفلا ينقم مثل هذا على من تسلموا أمره ووضعوا في أيديهم طيلة أكثر من ثلاثة عقود كل السلطات والصلاحيات، فهم من يشرّع وهم من ينفذ، وبعد هذه العقود يدفع هذا الغلبان ثمن أخطائهم وسوء تخطيطهم.
إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"العدد 1944 - الثلثاء 01 يناير 2008م الموافق 22 ذي الحجة 1428هـ