العدد 1944 - الثلثاء 01 يناير 2008م الموافق 22 ذي الحجة 1428هـ

وجه واحد... وثلاثة أقنعة

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

يحلم الرئيس الأميركي جورج بوش بأن يغلق ملفاته ويصفي حساباته، خلال 2008، عامه الأخير في رئاسته وحكمه للبيت الأبيض... لكن ملفاته متعددة وحساباته معقدة، تحول الأحلام إلى أوهام.

يحلم بوش بأن يحقق انجازا في عامه الأخير، لم يستطع تحقيقه طوال سبع سنوات خلت، يحلم بأن يغلق أولا ملف حربه الطويلة في أفغانستان بعد نحو سبع سنوات من الخسائر والضحايا دون انتصار، ثانيا بأن يصفي حسابه في حرب العراق بعد نحو خمس سنوات غارقا في المقتلة التي لا نهاية لها، ويحلم ثالثا بأن يحقق انجازا فريدا في فلسطين، بالوصول إلى اتفاق بين الفلسطينيين والإسرائيليين بعد عقود طويلة مأساوية، فشل في مواجهتها أكثر من خمسة رؤساء أميركيين، لأنهم كانوا مثله منحازين بلا عقل أو ضمير لـ «اسرائيل» المعتدية، ضد الفلسطينيين الضحايا!

ومن حق بوش أن يحلم بأن يحقق كل هذه الانجازات في العام 2008، لكي يخرج من البيت الأبيض منتصرا، تاركا وراءه ذكريات طيبة، تسجل له، مثلما سجل أبوه انجازا في حرب عاصفة الصحراء هذا الانجاز بعدما هربت منه الحلول طوال سبع سنوات، بل بعدما تورط وورط أميركا في حروب وصراعات حادة، باسم القوة العظمى الوحيدة في عالم اليوم، وفرض هيمنتها على العالم.

فإن كان من حق بوش أن يحلم، فمن حقنا أن نشك في قدرته على تحقيق حلمه، لأنه هو الذي حول الحلم إلى كابوس دموي عنيف، بدأت مرتداته تضرب صميم الدولة الأميركية، وتثير انزعاج وفزع المجتمع الأميركي بكل طوائفه، وتحرك في أعماقه نوازع الانتقام من إدارة بوش ومنظريها.

فإن بدأنا بالحرب ضد طالبان في أفغانستان الجارية للسنة السابعة، منذ أن بدأت بعد أسابيع قليلة من الهجمات الدموية على نيويورك وواشنطن في سبتمبر/ أيلول 2001، فإننا نلاحظ كما يلاحظ المراقبون الثقاة وفي مقدمتهم أميركيون نابهون، أن طالبان المتشددة، قد استعادت حديثا قوتها الضارية، وأصبحت الآن أقوى مما كانت عليه خلال عامي 2001 -2002.

وتقول تقارير مراكز البحوث وأجهزة المخابرات الدولية، وهي تقارير نشرت حديثا، إن طالبان أصبحت تسيطر الآن على نحو 54 في المئة من أراضي أفغانستان، وخصوصا في المناطق الشرقية والجنوبية التي تضم معظم السكان الافغان، بينما حكومة كرزاي محاصرة عمليا في كابول والمنطقة الخضراء. على رغم الوجود العسكري الكثيف للقوات الأميركية المسنودة بقوات حلف الناتو...

وبالتوازي أصبحت «القاعدة» وتنظيماتها المتطرفة بقيادة أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، أقوى مما كانت عليه، بعد الضربات التي تلقتها عقب هجماتها على نيويورك وواشنطن، فإذا بها تضرب في لندن ثم في مدريد، وتتمدد بأذرعها الكامنة في أوروبا، وتتوسع في بلاد المغرب العربي والجزيرة العربية، بدرجة تثير الرعب، فأين هو الانتصار الذي وعد به بوش مواطنيه والعالم، بكسر طالبان والقضاء على القاعدة، وأسر بن لادن والإتيان به داخل قفص حديدي إلى واشنطن لمحاكمته!

ولعلنا نذكر ونذكر الآخرين أن بوش شن حربه الضروس على أفغانستان العام 2001 باسم الحرب ضد الإرهاب الإسلامي، التي سماها حرب الخير ضد الشر، مدفوعا في ذلك بنظرية «صدام الحضارات» التي تبناها المفكر الأميركي «صمويل هانتنجتون»، القائمة على فكرة أن على الحضارة الغربية اليهودية المسيحية خوض حرب البقاء مع حضارات أخرى تهددها، وفي مقدمتها الحضارة الإسلامية، لأنها حضارة عدوانية مقاتلة تبغي التوسع والعدوان!

ولقد وجدت فكرة صراع الحضارات هذه جاذبية لدى جماعة المحافظين الجدد والتحالف المسيحي الصهيوني، أصحاب العداء والكراهية الشديدة للإسلام كدين وللمسلمين كشعوب مختلفة، مثلما وجدت مؤرخا ومفكرا بنى تاريخه على أساس أنه الخبير الأول بالإسلام والمسلمين، ونعني «برنارد لويس» الذي أصبح بين يوم وليلة منظر وفيلسوف المحافظين الجدد، الذين احتشدوا من حول الرئيس بوش، وفي طليعتهم ديك تشيني نائب الرئيس ودونالد رامسفيلد وزير الدفاع السابق وبول وولفوفيتز نائبه المستقيل وغيرهم...

وبعقول هؤلاء وسواعدهم، اندفع بوش في شن حربه ضد أفغانستان، ومن بعدها العراق العام 2003، «دفاعا عن الخير الكامن في الحضارة الغربية، ضد الشر المتراكم في الحضارة الإسلامية»، ولذلك لم تكن عبارة الحرب الصليبية التي أطلقها بوش في البدايات المبكرة، مجرد زلة لسان كما حاول المتأمركون العرب تبريرها أو إعادة تفسيرها فيما بعد... بل كانت تعبيرا عن حقيقة الأهداف والمقاصد...

بعد سبع سنوات من الحرب الدامية في المستنقع الأفغاني، لم يستطيع بوش مع حلف الأطلنطي بكل هيلمانه أن يقضي على القاعدة وطالبان، ولم يتمكن من تحقيق حلمه بقتل ما أسماه «الإرهاب الإسلامي» في مكمنه، بل إن هاجس الخوف من الهزيمة المريرة أصبح يطارده، مثلما يطارد حلفاءه الأوروبيين المشاركين في قوات الناتو «قوات إيساف» فإذا بهم يتقاطرون خلال الأسابيع الأخيرة لزيارة أفغانستان بهدف رفع الروح المعنوية لقواتهم المتورطة هناك، ويكفي أن نعرف أن خمسة من كبار هؤلاء الحلفاء زاروا أفغانستان حديثا، وهم الرئيس الفرنسي ساركوزي، وجوردون براون رئيس وزراء بريطانيا، وبرودي رئيس وزراء ايطاليا، وميركل مستشارة ألمانيا، ثم رود رئيس وزراء استراليا الجديد، فضلا عن الزيارات المتواصلة لكبار المسئولين الأمريكيين...

هاجس الفشل إذن هو الذي يسيطر على هذه الارمادا الاوروأميركية، في مستنقع جبلي وعر، فشل في السيطرة عليه تاريخيا أباطرة كبار، من الاسكندر الأكبر قديما إلى الاتحاد السوفيتي حديثا، الذي حارب لعشر سنوات كاملة، لإخضاع هذا الشعب المقاتل المتمرد حتى ذاق الفشل فانسحب، تاركا وراءه حربا أهلية لأربع سنوات، حتى قفزت طالبان إلى الحكم لخمس سنوات، قبل أن يزيحها بوش وحلفاؤها، فلجأت مع القاعدة إلى الجبال والأقاليم ليعيدا معا بناء قوتهما المشتركة، وتطلا على العالم من جديد بمزيد من العنف والتشدد بل والإرهاب في دول أخرى، انتقاما من بوش وحلفائه المحاربين في أفغانستان، وهم بريطانيا وفرنسا واسبانيا وايطاليا وألمانيا وكندا وهولندا وبولندا واستراليا وتركيا!

والنتيجة التي أمامنا الآن بعد سبع سنوات من الحرب، تظهر عنف طالبان والقاعدة قد ازداد، ملتحفا بالغطاء الإسلامي المقاوم للغزو الصليبي الغربي، وأن أذرع الإرهاب ومنظماته الدولية امتدت وقويت وانتشرت في بلاد بعيدة، وأن الترسانة العسكرية الغربية فشلت في حسم المعارك لصالحها، كما يحلم بوش بأن يحقق الحسم المنتصر خلال ما تبقى له من شهور في الرئاسة الأميركية!

والحقيقة أن الفشل في الحسم العسكري قام ويقوم على فشل في تحديد فلسفة ودوافع هذه الحرب وأهدافها بدقة... لأنها فلسفة بنيت على أساس عنصري اختلط فيها ما هو سياسي اقتصادي استعماري، مع ما هو ديني، وشاعت على أنها حرب حضارة ضد حضارة، ودين ضد دين، فكان طبيعيا أن تستفز المشاعر الدينية ليس في أفغانستان فقط، بل على امتداد العالم الإسلامي كله من اندونيسيا شرقا إلى موريتانيا غربا...

وهذا هو الوجه الحقيقي للحرب وتوابعها، «وهو ما ينطبق أيضا على حالة العراق وحتى فلسطين» وهو وجه تلبسته ثلاثة أقنعة... فهناك أولا من يرى في حركة طالبان وجها إسلاميا متطرفا متعصبا يهدد أمن العالم ويسعى لتدمير الحضارة الأوروبية الأميركية حقدا وغلا، ولذلك وجب قتله في مهده...

وهناك ثانيا من يرى في طالبان مجرد تنظيم إسلامي متشدد، أساء فهم أصول الدين الإسلامي وتفسير شرائعه ومبادئه، ولم يحدد من يعظه ويرشده ويعيد تثقيفه بالثقافة الإسلامية السمحة، ويساعده على الانفتاح على مجريات التطور وفهم طبيعة العصر ومستحدثاته وضرورات التعايش معه بحكمة واستنارة ودون غلو وتطرف...

وهناك ثالثا من يرى في طالبان، حركة تحرر وطني، غزا الاستعمار الغربي بلادها المنيعة، فهبت للدفاع عن استقلال وطنها، وفق حق التحرر والاستقلال وتقرير المصير، بمنأى عن الضغط الأجنبي والنفوذ الخارجي، وهي تفعل اليوم ما فعلته سابقاتها بالأمس ضد الغزو السوفيتي...

ونظن أن هذه الأقنعة الثلاثة، قد تداخلت بدرجة كثيفة ومثيرة للالتباس، وإن ظل وجه الأزمة واحدا. وهو إطلاق وحش القوة العسكرية الأميركية والأوروبية، لتحارب في بلاد بعيدة، بعد سنوات طوال من استراحة المحاربين، وتمارس الغزو المسلح، وتصطنع عدوا جديدا، هو الإرهاب الإسلامي، بعد زوال العدو الأصلي السابق، وهو الشيوعية والاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي وحلف وارسو... بالأمس كان العدو والصراع سياسيا والآن أصبح دينيا...

سوء الفهم بل سوء القصد، أوقع طالبان والقاعدة في جرائم العنف والتشدد وصولا للإرهاب، وسوء الفهم والقصد أوقع بوش وحلفاؤه في جرائم حرب ضروس، جرت مثيلاتها من قبل جبال أفغانستان الوعرة مئات المرات عبر القرون، ولم يكسبها حتى الاسكندر الأكبر... فكيف إذن يريد بوش الأصغر أن يكسبها عبر بضعة شهور في العام 2008!

لعن الله عصابة المحافظين الجدد المتصهينين، الذين أوقعوا الرئيس ؟؟؟ شر أعماله، بعدما أستمع لنصائحهم العنصرية المتطرفة، دون أن يجد من يرده إلى الحكمة والعقل.

خير الكلام: يقول صفى الدين الحلي:

أسمع مخاطبة الجليس ولا تكن

عجلا بنطقك قبلما تتفهم

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 1944 - الثلثاء 01 يناير 2008م الموافق 22 ذي الحجة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً