مرت علينا في الأيام القليلة الماضية أعياد إسلامية ومسيحية والحال العمومية للأمة ليست كما يجب وليست على ما يرام، وليست أجواء عيد ولا أفراح بالتأكيد... لا في فلسطين الحبيبة ولا في العراق المستباح ولا في أفغانستان ولا في باكستان ولا في لبنان... حتى إن بعضهم كتب معبرا بصدق: «أضاحٍ ولا أعياد!»
ومع ذلك كله يظهر من وسط الأمة بين الحين والآخر - ولاسيما من يعبّر منها عن الوجدان الجمعي فيها - من يفرحها ويجعل الابتسامة ممكنة على وجهها ويدخل السرور إلى قلبها ويجعلها تقول وهي تبكي من شدة الفرح أو تضحك من شدة الألم وفي حال أمتنا غالبا ما صار الفرح ممتزجا بألم بطبيعة الحال: «لايزال الخير موجودا في هذه الأمة» كما قالت إحداهن وهي تتابع ذلك الإنشاد الديني الذي أتحفنا به الفنان المغربي الأصيل والكبير رشيد غلام والذي قدمه الزميل العزيز غسان بن جدو مشكورا على شاشة «الجزيرة» السبت الماضي في برنامجه الشهير «حوار مفتوح» فأعاد هو ومعه الفنان الكبير و «فرقة الفيحاء» اللبنانية الفنية الرائعة التي رافقتهما مشكورة أيضا فساهموا مجتمعين ليس فقط في إعادة بعض الأمل المفقود بل في وحدة وتوحد تراث الأمة وإيمانها بوجود الأنوار والأضواء فيها حتى وسط زحمة الظلام المحيط وعلى رغم قسوة الحوادث وعمق المصائب والكوارث المحيطة بها حتى كان ما قدموه أشبه بـ «تسونامي» الفن الأصيل أحوج مما نكون إليه في واقعنا الراهن!
والفنان المغربي الأصيل والكبير رشيد غلام - الذي غنى ويغني من شعر ابن عربي وابن الفارض ورابعة العدوية وكل العرفان المخزون في هذه الأمة العظيمة - أظهر لنا من جديد الوجه الغائب أو المغيّب في الواقع من هذه الأمة والتي يقول نبيها العظيم فيما يقول عن دينها الموحد شارحا: «إن الله جميل ويحب الجمال...»! نعم أظهر لنا الفنان رشيد غلام من جديد ما تختزنه هذه الأمة من معين طيب سلسل بدلا من الماء الغور الذي حاولت ولاتزال الفضائيات الفاضحة والمنتشرة على امتداد الوطن الكبير أن تسقطه علينا باسم «الأغنية العربية والطرب العربي أو الفن العربي» وما هو سوى لغو وإفساد للغة والأذن وخدش مستمر للحياء والأصالة والإبداع وإمعان في إهانة الأمة واحتقار ذوقها الرهيف، عنوة أو غصبا أو حياء!
من جهة أخرى، أظهر لنا رشيد غلام الفنان الأصيل والملتزم قضايا أمته والمنتمي إلى الحركة الإسلامية الأصيلة وجها آخرَ للفن معاكسا لمزاعم بعض الناطقين باسم الحركة الإسلامية المروجين لمقولة التضاد بين كل ما هو رائع وجميل وأخاذ في الحياة وبين الإسلام عندما «أصّل» لكل أعماله الفنية الرائعة بالاستناد إلى القرآن الكريم والحديث الشريف.
وبالتالي فقد أثبت بالصوت والصورة والوجه البِشْر وقبلها بالسلوك العملي في حياته العامة التي لم تخلُ «من سجن الحاكم الظالم الذي لم يسجنه على أعماله السياسية بل لأجل منعه من ممارسة الفن الأصيل وإظهار جماليته مترادفة مع إسلام يساوي الحياة» كما شرح وبيّن في حواره المفتوح على قناة «الجزيرة».
نعم، لقد أثبت رشيد رضا فعلا أن الإسلام الأصيل هو الدين الذي يساوي الحياة، وأن الدين عند الله الإسلام بمعنى أن البشر جميعا ليسوا في الواقع إلا «مسلمين» لأمر الله كل على شريعته وكل على منهاجه في التسليم للسنن الكونية المبدعة والرائعة الصادرة عن الحق الأعلى والحقيقة الكونية الخالدة في جماليتها وتلألئها وبديعها تماما كما قال أحد العرفاء المشهورين: «إن طرق الوصول إلى الله بعدد أنفاس الخلائق»، أو كما لخصها الفيلسوف والعارف والعاشق الكبير محيي الدين بن عربي بقولته المشهورة:
مقالاتنا شتى وحسنك واحد
وكل إلى ذاك الجمال يشير
أو كما نقل عن رسول الله محمد (ص) في الحديث الشريف قوله: «إن أصدق كلمة قالها شاعر هي قول لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وكل نعيم لا محالة زائل».
في زمن المعاناة والآلام والعذابات الممتدة على طول الوطن الإسلامي والعربي الكبير، جميل بمكان فعلا أن نستمع إلى أمثال المنشد الديني الكبير رشيد غلام أو إلى فرقة الفيحاء وهما يخففان عن هموم الناس بالكلمة والنغم المسموعين بالقلب قبل الأذن، وبالتالي يفتحان الآفاق واسعة أمام تجديد الأمل بإمكان حياة أفضل وإمكان الخروج من انسداد الآفاق السياسية في أكثر من ساحة إسلامية أو عربية على آفاق الفن اللامحدودة.
لطالما كان الفن أصدق تعبيرا عن الحس الجمعي للناس فكيف إذا كان هذا الفن ملتصقا بعقيدة الناس الخالدة، ولاسيما تلك العقيدة التي لا تتمكن اللحظة الخاطفة والمتغيرة أن تخطفها مهما عظمت!
سيكتب التاريخ يوما لا محالة أنه وفي الوقت الذي حاول فيه الاستعمار أن يدفع بالأمة إلى حافة اليأس والقنوط وبينما كادت لغة الكلام السياسي تتعطل في بعض الساحات أو المقاطع التاريخية نهض من بين صفوفها من لهم القدرة على إبقاء لسان الرأي العام يلهج بذكر الله عن طريق الأنشودة الدينية والتواشيح وتعميم لغة الحسن والجمال الرباني ليهزم اللغة الخشبية والحجرية التي تحاول سلطات العسف والظلمات أن تقمع بها الحس الجمعي بالنهضة والتضامن!
من جهة أخرى إن أعيادنا المشتركة لاشك فرصة نادرة لإعادة اللحمة بين أطراف الأمة المتناثرة والمتخاصمة أحيانا، والعيد كان دوما فرصة لرأب الصدع بين أطراف العائلة الواحدة أو المتباعدين من الإخوة أو الأشقاء أو الأصدقاء.
ولا يختلف اثنان البتة في أن أفضل لغة جامعة وغير مفرقة هي لغة الفن والأدب والحب والحسن والجمال، وعليه فإنه حسنا فعلت «الجزيرة» عندما استدعت هذه اللغة المرهفة والناعمة لتكون لغة حصاد العام وحصاد الأعياد الإسلامية والمسيحية بكل أطيافها وفرقها ومذاهبها لتواجه تحدي لغة الاستعمار الخارجي المشبعة بأنغام الفتن المتنقلة من أدنى الوطن إلى أقصاه!
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 1941 - السبت 29 ديسمبر 2007م الموافق 19 ذي الحجة 1428هـ