العدد 1941 - السبت 29 ديسمبر 2007م الموافق 19 ذي الحجة 1428هـ

العراق... والصراع على المنفذ المائي

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

تراجع «الرئيس العراقي» جلال طالباني عن تصريح أعلن فيه إلغاء «اتفاقية الجزائر» المتعلقة بترسيم الخطوط المائية في شط العرب التي وقعتها طهران أيام الشاه مع نائب الرئيس العراقي آنذاك صدام حسين. التراجع لا يعني شيئا بالنسبة إلى الاتفاقية كذلك إعلان الإلغاء من طرف واحد. فالاتفاقيات الثنائية بين الدول التي تسجل في الأمم المتحدة رسميا تبقى سارية المفعول إلا إذا توافق الطرفان على سحبها من السجلات الدولية. وهذا الأمر أدركه طالباني باعتبار الطرف الآخر رفض تجاوز التوقيع معتبرا الاتفاقية ورقة رسمية لا يجوز التلاعب بها بحسب الأمزجة والأهواء السياسية.

الموقف نفسه سبق أن كرره صدام حسين حين أصبح رئيسا للعراق. فهو أعلن تمزيق الاتفاقية عشية بدء الحرب مع إيران في العام 1980. وبعد عشر سنوات أعلن عودته إلى الاتفاقية عشية الهجوم على الكويت في العام 1990. وفي الحالين لا قيمة للموقف السياسي باعتبار الاتفاقية تعتبر وثيقة رسمية مسجلة دوليا في الأمم المتحدة ولا يجوز تعديلها إلا بعد توافق الطرفين على المسألة.

الموضوع من الناحية القانونية لا يتغير إلا إذا أقدمت قوة على استخدام نفوذها وكسرته عنوة وفرضت على الطرف الآخر التنازل رسميا عن التوقيع. وبما أن الطرفين حتى الآن يرفضان الذهاب بعيدا في هذا الاتجاه فستبقى «اتفاقية الجزائر» التي وقعت برعاية الرئيس الراحل هواري بومدين في العام 1975 وثيقة دولية تحدد رسميا الخط المائي الفاصل بين العراق وإيران.

بما أن المسألة واضحة من الجانب القانوني فلماذا أقدم طالباني على خطوة إعلان الإلغاء ثم تراجع عنها بعد أيام؟ قراءة الجواب تبدأ من السياسة. ومن يقدم على هكذا خطوة ثم يتراجع عنها فلابد أن تكون هناك دوافعُ سياسية أملت عليه الاتجاه نحو اعتماد مثل هذا السلوك الذي لاقى الاستغراب ثم النقد العنيف من الجانب الإيراني.

طهران تعتبر وثيقة الاتفاقية رسمية وغير قابلة للتغيير أو التعديل أو الإلغاء أو التجاوز من دون موافقتها. وهي ترى فيها ذاك النص التي يؤكد حقوقها المائية في مجرى شط العرب الذي يفصل البلدين ويربط بينهما.

المسألة إذا ليست ورقة وإنما مصالح تمس سيادة الدولة وحقوقها. ولأن المصالح أقوى من الايديولوجيا فإن إيران تعتبر «اتفاقية الجزائر» أعادت إليها حقوقها في شط العرب بعد أن عاث بها الانتداب البريطاني حين عدّل في العام 1937 الحدود المائية (البحرية - النهرية) بين الطرفين.

الصراع على شط العرب ليس جديدا فهو بدأ يتشكل سياسيا مطلع القرن الماضي حين اتفقت السلطنة العثمانية في العام 1913 مع إيران على اعتبار «نقطة خط القعر» في الممر المائي تمثل الفاصل الحدودي بين الدولتين. وبسبب غموض فكرة «نقطة خط القعر» وعدم وضوح الانحدار وعمقه في مجرى مائي نهري يتغير موسميا اتجه الانتداب إلى تبني نقطة ثابتة للفصل بين الحدود. ولكن إيران رفضت الإقرار بالتعديل وأصرت على «نقطة خط القعر» وهي النقطة التي يكون الشط فيها بأشد حالات انحداره. واستمر التجاذب بين الطرفين إلى أن أعلن العراق في العام 1969 شط العرب كله مياها عراقية رافضا الاعتراف بنقطة «خط القعر».

أدى الموقف العراقي إلى توتير العلاقات السياسية وبدأت إيران التدخل في المسألة الكردية في الشمال، فاضطرت بغداد إلى توقيع الاتفاقية مع طهران في الجزائر مقابل وقف تسليح الحركة الانفصالية التي كان يقودها مصطفى بارزاني.

«اتفاقية الجزائر» أعادت تخطيط الحدود المائية إلى نقطة «خط القعر» بناء على بروتوكول 1913 ومحاضر لجنة تحديد الحدود في سنة 1914. وأكدت أن خط «التالوك» هو خط «وسط المجرى الرئيسي الصالح للملاحة عند خفض المنسوب ابتداء من النقطة التي تنزل فيها الحدود البرية في شط العرب حتى البحر».

بعد توقيع الاتفاقية في مارس/ آذار 1975 اعتبرت إيران أنها انتصرت في معركة الشط في الجنوب بينما اعتبر العراق أنه انتصر في معركته ضد الأكراد في الشمال. إلا أن مشكلة بغداد المائية تفاقمت لاحقا حين اكتشفت أنها كسبت معركة جزئية لتخسر نصف منفذها المائي على البحر؛ ما سبب لها لاحقا مشكلات سياسية بسبب انغلاق الدولة وعدم قدرتها على التحرك بحرية في المنفذ المائي الوحيد الذي تملكه.

نقطة خط القعر

مشكلة العراق تتجاوز «نقطة خط القعر»؛ لأن ضيق المنفذ المائي شكل نقطة ضغط على اقتصاده وبنيته السكانية ومجاله الحيوي ومنع الدولة من النمو المتوازن؛ نظرا إلى حاجتها إلى مساحة جغرافية مائية (بحرية) تعطيها القدرة على الإطلالة على الخليج الذي أخذت شبكته التجارية (النفطية) تشهد ذاك الاتساع الدولي.

«نقطة خط القعر» أورثت حكومات العراق مشكلات كثيرة ودفعتها إلى الانزلاق في مواجهات حامية مع دول الجوار بهدف توسيع الحدود المائية بما يتناسب مع حجم الاقتصاد وحاجات الدولة النامية. وبسبب هذه «النقطة» تورطت بغداد في حروب ومناكفات أدت في النهاية إلى «خراب البصرة» وتفكك الدولة وتقويضها وإخراجها من المعادلة العربية بعد احتلال العراق في العام 2003.

الآن وبعد نحو خمس سنوات على الغزو بدأت «نقطة خط القعر» تصعد إلى سطح مياه المنفذ المائي الوحيد للعراق. وكلام طالباني بشأن «اتفاقية الجزائر» وتراجعه السريع عنه يذكّر بتلك الحركات التي لجأ إليها صدام الذي وقع الاتفاقية في 1975 ثم مزقها في 1980 ثم اعترف بها في 1990.

تشابه المسألة يطرح الموضوع في إطار تجاذب المصالح وحاجة العراق فعلا إلى ذاك المنفذ المائي بغض النظر عن رئيس السلطة أو صاحب القرار. فصدام حاول مرارا حل هذه المعضلة على طريقته وفشل. وطالباني يبدو أنه بدأ يكتشف أن «دويلته» في الشمال تحتاج إلى منفذ مائي في «دويلة» الجنوب، وهذا الأمر ربما لن يتوافر في المستقبل إذا نجحت الولايات المتحدة في تمرير مشروع «الفيدراليات» أو الكانتونات الطائفية والمذهبية والمناطقية. وفي حال حققت إدارة واشنطن أغراضها التقويضية والتقسيمية تصبح «دولة الشمال» مضطرة إلى تحسين علاقاتها مع تركيا لأنها تشكل المنفذ الوحيد لنقل البضائع أو تمرير أنابيب النفط إلى البحر المتوسط.

«نقطة خط القعر» تبدو كبيرة في سياق رؤية العلاقة الإقليمية من منظار استراتيجي/ جغرافي وفي إطار اضطراب المصالح المتوقع حصولها بين دويلات العراق الثلاث في الجنوب والشمال والغرب. فكل دولة تعاني من مشكلة ولكن «كردستان» ستكون المتضرر الأول باعتبار موقعها الجغرافي (الجبلي) بعيدا عن الشواطئ وهي مضطرة إلى ابرام اتفاقات مع تركيا أو إيران أو «كانتون الجنوب» لتمرير البضائع ونقل المنتوجات النفطية. ولهذا السبب أبدى طالباني مخاوفه من احتمال إقفال الممر المائي العراقي الوحيد في وقت بدأت أنقرة تتحرك عسكريا في الشمال وتضغط سياسيا على الأكراد لحسم موضوع كركوك وتحديد هوية المدينة الغنية نفطيا.

تصريح طالباني المضاد لاتفاقية الجزائر يعتبر «ضربة استباقية» تشير إلى قلق سياسي من احتمال انغلاق الممر المائي عند «نقطة خط القعر». وهذا يعني تحويل «كردستان» إلى دويلة جبلية لا تستطيع الاتصال بالعالم الخارجي إلا من طريق إيران أو تركيا أو بواسطة الإسقاط الجوي بالمظلات. والكلام الذي أطلقه طالباني والرد الإيراني عليه ثم تراجعه عن التصريح، كلها حركات ترسم إشارات ضوئية إلى وجود قراءة كردستانية للتحالفات الإقليمية ومخاوف من احتمال إقدام الولايات المتحدة على تغييرات في رؤيتها الاستراتيجية. فالمخاوف مشروعة نفسيا وخصوصا إذا قررت أميركا اعتماد سياسة إعادة توزيع حصص العراق في إطار ترسيم مناطق النفوذ تحت سقف حدود المصالح بين تركيا في الشمال وإيران في الجنوب.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1941 - السبت 29 ديسمبر 2007م الموافق 19 ذي الحجة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً