العدد 1940 - الجمعة 28 ديسمبر 2007م الموافق 18 ذي الحجة 1428هـ

باكستان وتحديات «النموذج» الأفغاني

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

اغتيال بنظير بوتو قبل أسبوعين من الانتخابات التشريعية أعاد خلط الأوراق السياسية في بلد يعاني من الفقر والانقسامات الأهلية (الأقوامية، والقبلية، والمناطقية، والطائفية). فهذا البلد الذي حقق خطوات متقدمة على مستوى التقنيات العسكرية (قنابل نووية، وصواريخ متطورة) لايزال اقتصاديا في طور التشكل السياسي الذي لم يصل بعد إلى مستوى الدولة الموحدة اجتماعيا التي تسمح لها بالإقدام على عملية دمج تاريخية للهويات المتعارضة.

باكستان منذ تأسيسها بعد انفصالها عن الهند في نهاية أربعينات القرن الماضي لاتزال تعيش حالا من الفوضى الأهلية التي أعطت فرصة لمؤسسة الجيش للعب دور الضابط السياسي لمنع انهيار الدولة وتفككها. فمنذ إعلان محمد علي جناح استقلال «الدولة» عن الهند بدأت النخبة السياسية البحث عن هوية مشتركة توحد المناطق والأقاليم في إطار وطني يؤسس تلك القاعدة الاجتماعية التي لابد من توافرها لتحقيق الاستقرار والتقدم والتنمية. وهذا الطموح الذي مضى عليه أكثر من نصف قرن لم تنجح «النخبة» في التوصل إليه؛ بسبب تلك الانقسامات التي نجحت في تعطيل تشكيل دولة ذات هوية واحدة.

مسألة «الهوية» لعبت دورا في تأزيم العلاقات الأهلية. فالدولة التي استقلت عن الهند باسم الإسلام اكتشفت أنها تحتاج إلى عناوينَ أخرى لتعزيز فكرة الانفصال عن الهندوس. فالإسلام لعب دور التوحيد الديني/ الثقافي في مواجهة الغالبية الهندوسية في ظل الاستعمار البريطاني. ولكن الفكرة التي وحدت الجمهور المسلم في التصدي للاستعمار ومواجهة الغالبية الهندوسية اصطدمت بالواقع الأهلي المنقسم إلى أقاليمَ باكستانية غير متجانسة في تركيبها القبلي واللُغوي والاجتماعي. وشكّل هذا الانقسام ذاك الهاجس السياسي الذي عطل إمكانات الدمج الاجتماعي وأعطى فرصة للمؤسسة العسكرية للانقضاض على أجهزة الدولة وإدارتها في سياق برنامج أعطى الأولوية للأمن والدفاع وحماية الحدود والحد من مخاطر الهند.

موضوع «الأمن» أسس مشكلة إضافية إلى جانب مسألة «الهوية». وأدى التركيز على حل معضلة الأمن إلى تكوين هيكلية اقتصادية خاصة بالمؤسسة العسكرية ساهمت في إهمال الكثير من القطاعات الإنتاجية؛ ما زاد من مشكلات الفقر في بلد كثيف سكانيا ومساحته الجغرافية محدودة نسبيا.

مشكلة «الهوية» المعطوفة على هاجس «الأمن» تفسر إلى حد كبير أسباب تعدد الانقلابات العسكرية وعدم قدرة النخب السياسية على تكوين بدائل اجتماعية مندمجة في هويتها. فالجيش كان دائما يلعب وظيفة القوة الأمنية القادرة على منع الانقسام وحماية الوطن من «المخاطر» الحدودية (الهند والصراع على كشمير). والنخب السياسية «المدنية» كانت ضعيفة بسبب انقسامها الحزبي إلى مجموعات إقليمية ومناطقية وقبلية ومذهبية إضافة إلى وجود كتلة من المهاجرين المسلمين غادرت الهند بعد الاستقلال والانفصال.

هذه التكتلات الإقليمية كانت تحمل معها هويات ضيقة (السند، البنجاب، البلوش، كتلة المهاجرين) تغلّب مصلحة المنطقة على الدولة وتعطّل الحياة السياسية وتعطي تلك الذريعة الأمنية للمؤسسة العسكرية وتشجعها دائما على الانقلاب على المسار الديمقراطي. فالقوى السياسية (الزعامات والأحزاب) كانت محلية الصنع وغير قادرة على توحيد الأقاليم في هوية مشتركة تضبط تطور المجتمع في سياق الاندماج الأهلي. وهذا ما جعل الديمقراطية الباكستانية في حال من الفوضى السياسية المحكومة بالتعارضات الأقوامية والقبلية والمناطقية التي منعت تشكل جماعة موحدة تتجاوز في وعيها «القومي» حدود الأقاليم. فالأحزاب السياسية ليست باكستانية بقدر ما هي تنظيمات «سندية» أو «بلوشية» أو «بنجابية» مضافة إليها تلك الجمعيات القبلية والهيئات الدينية التي تتخذ من الحدود مع أفغانستان (الباشتون مثلا) مواقعَ مستقلة لها.

وبسبب ضعف البنية التوحيدية للأحزاب السياسية نجحت القوى الإسلامية في تشكيل ذاك القطب الجاذب للفئات الاجتماعية المتضررة من استبداد النخبة العسكرية أو تسلط الإقطاعات السياسية على الأقاليم التي تعتمد على الزراعة والمهن والحرف مصدرا للرزق والعيش. فالإسلام الذي برر الانقسام والانفصال والاستقلال عن الهند تحول بعد فشل النخب السياسية في توحيد الجماعات الأهلية إلى قوة توحيد تتخذ الدين الإطار الضامن للهوية المشتركة ووحدة الدولة. فالإسلام إلى جانب الجيش ظهر على أنه قوة توحيدية تجمع التعارضات في هوية مشتركة. وهذا الأمر بدأ يشق طريقه بقوة في عهد ضياء الحق. فهذا الجنرال الذي انقلب على والد بوتو (ذوالفقار) وأعدمه أسس في فترته قواعدَ جديدة للتعامل مع الدولة والمعارضة السياسية والإسلام.

دولة ضياء الحق

ضياء الحق ينتمي إلى كتلة المهاجرين المسلمين التي نزحت من الهند. وهذا ما جعله أكثر قربا من المؤسسة العسكرية بصفتها تشكل ذاك الوعاء التنظيمي الذي يلعب دور المدافع عن حدود الوطن ومصالح الدولة العليا في آن.

نجح ضياء الحق في ربط الانتماء إلى المؤسسة العسكرية (جنرال) بالانتماء إلى الدين (كتلة المهاجرين)؛ ما أعطاه فرصة تشكيل «هوية» خاصة تنتمي إلى الدولة وترتفع على الحساسيات الإقليمية ومصالح المناطق والقبائل. فالوطن بالنسبة إلى الجنرال هو الدولة وليس الإقليم لكونه هاجر من الهند وليس باكستانيا في أصوله العرقية والقبلية. وبسبب ترفّع الجنرال عن التناقضات المحلية والإقطاعات السياسية نجح في تشكيل قوة أعادت تأسيس العلاقات الأهلية في إطارين: الدولة والإسلام.

في عهد ضياء الحق تشكلت شخصية قلقة للدولة تجمع بين مؤسسة عسكرية متطورة تقنيا (التصنيع النووي والبرنامج الصاروخي) وهوية دينية تطمح إلى توحيد أقاليم باكستان في إطار سياسي يدمج الجماعات الأهلية. واستغل الجنرال موقعه ذاك لتحسين علاقات باكستان مع الصين التي كانت في حال تصادم على الحدود مع الهند وفي الآن طوّر علاقات المؤسسة العسكرية مع الولايات المتحدة التي كانت بحاجة إليه في إطار صراعها الدولي مع الاتحاد السوفياتي الذي تورط في احتلال أفغانستان.

الصراع على أفغانستان أدخل ذاك العامل الجديد في لعبة التشكيل الداخلي للتوازنات الأهلية بباكستان. وبدأت العناصر الأفغانية تلعب دورها في التأثير على هوية الدولة وموقع الجيش في حفظ الحدود والأمن والتوازن بين الأقاليم. واستمر هذا التجاذب الدولي يؤثر في الحياة المدنية إلى أن قُتِل الجنرال ضياء الحق في حادث سقوط طائرة عسكرية مفتعل.

مقتل الجنرال جاء في لحظة انتقالية دوليا وإقليميا. فالاتحاد السوفياتي بدأ يتفكك وأخذت القوات الروسية بالانسحاب من أفغانستان؛ ما ترك فراغات أمنية وقلل من أهمية باكستان الاستراتيجية للولايات المتحدة. انهيار الاتحاد السوفياتي وانسحاب قواته من أفغانستان عدّل من قواعد اللعبة الدولية وأصبحت باكستان من جديد عرضة للتنازعات السياسية الأهلية المفتوحة هذه المرة على الرياح الأفغانية وما تحمله من عناصرَ تفجيريةٍ (قبلية، أقوامية) معطوفة على حركات جهادية (طالبان والقاعدة) تأسست في مرحلة ما بعد انسحاب الاحتلال السوفياتي.

بعد مقتل ضياء الحق عاودت الحياة الحزبية نشاطها المدني في ظل دولة غير قادرة على دمج الجماعات الأهلية في إطار هوية مشتركة تتجاوز تلك الانتماءات الضيقة التي تتجاذب الأقاليم. وهذا القلق الأمني أعطى فرصة للمؤسسة العسكرية لإعادة التدخل في الحياة السياسية بذريعة أن الأحزاب (النخب) غير قادرة على حماية وحدة الدولة والدفاع عن حدود الوطن. وبوتو زعيمة حزب الشعب التي فازت بالغالبية في انتخابات 1988 أسقطت في العام 1990 بتهمة الفساد، لتعود لاحقا إلى خوض الانتخابات في العام 1993 وتفوز بالحكم لتسقط ثانية بتهمة الفساد في العام 1996 ويعتقل زوجها ويسجن إلى العام 2004. الأمر نفسه حصل مع المعارض المنافس نواز شريف الذي فاز بالانتخابات وانقلب عليه الجيش بعد صراع مرير مع قائده السابق برويز مشرف.

مشرف حاول تَكرار سياسة الجنرال ضياء الحق في سياق دولي مغاير. فهو استكمل مشروع التخصيب النووي وتطوير البرنامج الصاروخي في ظل عودة المسألة الأفغانية إلى واجهة الصراع الدولي في إطار مختلف. فأفغانستان التي تعرضت للاحتلال الأميركي نهاية 2001 جذبت إلى باكستان عدم الاستقرار وبدأت تنقل إليها الفوضى الأهلية تحت سقف انقسامات سياسية حادة يتداخل فيها الإقليمي (حدود باكستان وأفغانستان المشتركة) بالدولي (الاحتلال الأميركي) بالقبلي (الباشتون) والمناطقي بالديني بالإرهابي (القاعدة). باكستان الآن تدفع ثمن فشل سياسة الاحتلال الأميركي لأفغانستان بعد أن استفادت سابقا من تعزيز موقعها الأمني في إطار التجاذب الدولي في الفترة السوفياتية (1979) والأميركية (2001). وهذا المتغير الدولي الذي أخذ يمتد إقليميا من أفغانستان إلى باكستان منذ مطلع العام 2007 بدأ يزعزع الاستقرار ويعيد تشكيل تجاذبات أهلية (مناطقية، قبلية، أقوامية، وطائفية) تهدد وحدة الدولة التي لعبت المؤسسة العسكرية دورا في المحافظة عليها.

انتقال العنف من أفغانستان إلى باكستان في السنة الماضية يعطي صورة عن ذاك المتغير الدولي وفشل الاحتلال الأميركي في ضبط مصادر الإرهاب في أفغانستان. واتهام تنظيم «القاعدة» بأنه الطرف الذي يقف وراء اغتيال بوتو لا يقدم أو يؤخر في احتواء التحولات التي طرأت على قواعد اللعبة الدولية. فهذا التنظيم المجهول الهوية والعنوان هو مجموعة «قواعد» يمكن الاستفادة منها والاختفاء تحت مظلتها وتشكيل «قفازات» لشبكات مخابرات وأجهزة تخطط لتمزيق دولة عجزت عن تشكيل هوية وطنية جامعة للأقاليم والقبائل والأقوام.

الغاية من اغتيال بوتو تتجاوز حدود تنظيم «القاعدة». فالهدف أكبر. والخوف أن يكون الاغتيال مجرد خطوة تمهد لعملية خلط الأوراق بهدف تحطيم الدولة وتحويلها إلى مثال آخر لنموذج التقويض الأميركي في أفغانستان والعراق.

باكستان الآن أمام تحديات كبرى، فهي تبدو دولة مُسيَّرة وخياراتها محدودة بين الاحتفاظ بدورها السياسي في ضبط الأمن الإقليمي بإشراف أميركي وبين نموذج «الأفغنة» الذي يعطل الأمن ويزعزعه باتجاه سياسة أميركية أخرى تعتمد نهج التحطيم والتقويض. ودولة باكستان في تكوينها المنقسم جاهزة أهليا لاستقبال هذا النوع الوافد إليها من أفغانستان.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1940 - الجمعة 28 ديسمبر 2007م الموافق 18 ذي الحجة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً