رغم أنّ الزَّبِيْبَةَ في لغة الإصحاح هي الزّبد الذي يظهر في شدق من يُكُثر الكلام؛ إلاّ أنها في لغة المصريين المُتدينين هي سواد الجِلْد الذي يظهر وسط الجبهة للمُصَلِّيْن، وسواء أكَانَ أخذُنا بناصية ما قالته العرب وأقحاحها أو بما قاله المصريون ومُتدينوهم فإن كلا القولين يَصُحّان في شخصية الرئيس الكوبي فيدل كاسترو!.
فمن زَبِيْبَةِ الأشداق يبقى الرجل مُفَوَّها ومهووسا بالمايكروفون الذي اعتاد أن يُمسكه لعدّة ساعات متواصلة أمام حشود الثورة وصلت في أحيان شتى إلى ست ساعات، متناسيا في ذلك اعتلال صحته وعمره المديد الذي أوصله إلى واحد وثمانين عاما. ومن زَبِيْبَةِ جبهة المُصلِّيْن فقد تواردت أنباء قبل عام أو أكثر تفيد بأنّ الإيرانيين وبفعل علاقتهم الوطيدة به، أقنعوه بجدوائية الدخول في الإسلام، أوعلى الأقل مغادرة الإلحاد والعودة إلى ما تلقّاه خلال تعليمه الابتدائي والثانوي بين عامي 1933 و 1944 في مدارس الآباء اليسوعيين بسانتياغو! بطبيعة الحال فلا يقين لديّ بما ذكرته إحدى الصحف الإيرانية سوى رواية تحتمل الصدق والكذب، لكن الأمر تمّ تداوله.
وما بين تَعْرِيفَيْ الزّبِيْبَة اللغوي والعُرفي، تبقى المُحصلة أنّ الحديث عن فيدل كاسترو مهما بعد التصريحات التي قالها هذا الزعيم الشيوعي الأسطورة في العاصمة «هافانا» تاركا جدلا واسعا داخل الدول المتمالأة معه في الحوض اللاتيني، وأيضا داخل الدول التي ناصبته العداء لأكثر من أربعة عقود خلت، فبعد ثمان وأربعين عاما من الحكم في واحدة من أكبر جزرالآنتيل بين خليج المكسيك والبحر الكاريبي بثّ التلفزيون الكوبي ليل الثلثاء ما قبل الماضي حديثا لكاسترو قال فيه «واجبي الأساسي عدم التمسك بالسلطة وعدم إعاقة صعود أناس أصغر سنا، بل نقل الخبرات والأفكار التي تستمد قيمتها المتواضعة من الفترة الاستثنائية التي عشتها» وإذا ما صحّ حديث الرجل فإنّ عليه أن يُعدّ رجالا أربعة يُحمّلهم مسئولياته الحالية الرئيسية قبل موعد الانتخابات النيابية المقررة الشهر المقبل، أولها زعامة الحزب الشيوعي (الحاكم) ورئاسة مجلس الدولة (رئيس البلاد) ورئيس مجلس الوزراء، وقائد الجيش، وهي كلها مناصب صلبة يتولى زعامتها فيدل كاسترو، وأصبحت تتركّز في قوامها على كاريزميته وتاريخه النضالي الذي تبلور في صيغة حكم قائم بعد هروب الدكتاتور باتيستا إلى جمهورية الدومنيكان وإمساك الثوار اليساريين على السلطة. بالتأكيد فإنّ ما تقوله حركة ماغييل الكوبية المعارضة وما يقوله كوبيو السلطة ليس دقيقا، لكن تحصيل الحقيقة بين اليمين واليسار يُمكن بالمقاربات وعبر تركيب مُكعّبات الصورة، فهذا البلد الذي أرهقته العقوبات الأميركية القاسية لأربعين عاما ما زال يحتفظ بهامش القدرة على تمييع المخاطر وإبقاء الخدمات العامّة مبسوطة ومتاحة، فالتعليم والصحة والإسكان والعمل (وهي المشاريع التي تُعيّر بها الدول) استطاعت سلطة الثورة أن تُبقيها في متناول الكوبيين، والأهم من ذلك هو فنها في تشكيل مدماك ثقافي وعلمي وسياسي منافح عنها في مواجهة أندادها من الرأسماليين وأيضا «الخونة» من المهاجرين إلى الخارج كما يُسميهم إعلام السلطة، فالجامعة الرئيسية في البلاد والتي أنشئت قبل مئتين وتسعة وسبعين عاما لا زالت تضم أهم تخصصات العلوم والتكنولوجيا الحديثة كالآداب والأحياء والجغرافيا والإعلام والقانون والرياضيات والاقتصاد السياسي والفلسفة والفيزياء وغيرها من العلوم، ولا أذيع سرا إذا ما قلت هنا إنّ المصابين بحروقات وعاهات انفجار مفاعل تشرنوبيل قبل أحد عشر عاما من الروس لم يحصلوا على علاج مناسب إلاّ في المستشفيات الكوبية التي مازالت تنتدب أكثر من ألفي طبيب للعمل ضمن فرق الإغاثة في المناطق المتهالكة للقرن الإفريقي.
لا أظنّ أنّ الكوبيين راضون كثيرا عن حالهم، لكن الأكيد أيضا أنهم مُدرِكون بأن جزءا كبيرا من مأساتهم سببها جار أرعن لا همّ له سوى أن يرى نغمة العالم وناسه كما يُريدها هو فقط لا غير
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 1938 - الأربعاء 26 ديسمبر 2007م الموافق 16 ذي الحجة 1428هـ