هل تراجعت الإدارة الأميركية عن مشروع تغيير «الخريطة السياسية» لدول «الشرق الأوسط»، أم أنها أعادت تكييف الخطة وفق معايير تأخذ في الاعتبار تركيبة المنطقة الديموغرافية والإقليمية؟
فكرة تغيير خريطة المنطقة السياسية جاءت بداية في سياق تصريح أطلقه وزير الخارجية الأميركي السابق كولن باول بعد سقوط بغداد في مطلع العام 2003. وجاء التصريح على خلفية فوز عسكري سجلته قوات الاحتلال الأميركية على العراق. الفوز السريع أنتج مجموعة أفكار «انتصارية» قادت الإدارة إلى الإفصاح عن سياسات تقويضية اعتمدت شعارات عامة مثل «الحرب الاستباقية»، «الفوضى الخلاقة»، «تغيير الأنظمة»، «تعديل سياسات الأنظمة، «إعادة تشكيل الشرق الأوسط»، وغيرها من عناوين ترافقت مع وعود بالإصلاح والتطوير والتحديث والتنمية وتمكين المرأة والدفاع عن حقوق الإنسان.
الآن تغيرت الأحوال ولم تعد تلك الشعارات والعناوين مطروحة في سوق التداول الإعلامي. فالوزير باول استقال وخرج من الوزارة بعد الانتخابات الرئاسية التي جددت للرئيس جورج بوش ولاية ثانية. بعده خرج وزير الدفاع دونالد رامسفيلد، إثر الانتخابات التشريعية النصفية وصدور تقرير بيكر - هاملتون بشأن العراق ومستقبل الاحتلال الأميركي هناك.
خروج باول المعتدل ثم رامسفيلد المتطرف أعاد تعديل الصورة بدخول كوندوليزا رايس «المتشددة» سابقا إلى «الخارجية» واستدعاء مسئول المخابرات روبرت غيتس إلى «الدفاع». هذا التعديل في هيئة الإدارة الأميركية أنتج سياسة تتعامل مع الوقائع بعقلية مخابراتية لا تنسجم بالضرورة مع توجهات نائب الرئيس ديك تشيني الأيديولوجية.
السياسة الواقعية التي بدأت معالمها بالارتسام منذ نهاية العام 2006، اتخذت سلسلة تدابير متعارضة. فمن جهة، قررت زيادة عدد القوات الأميركية بذريعة المساعدة على ضبط الأمن ومنع العراق من الانزلاق نحو اقتتال يمزق ما تبقى من علاقات أهلية. ومن جهة، قررت سحب تلك الشعارات اللفظية التي هددت دول الجوار بعدم الاستقرار وتغيير أنظمتها.
الخطوتان الواقعيتان استهدفتا تشكيل حركة سياسية تقوم على معادلة تضمن أمن قوات الاحتلال في العراق وتخفف من نسبة الطموحات الأميركية في المنطقة. وبرأي الثنائي رايس - غيتس أن هذه السياسة الواقعية أثمرت نتائج ميدانية أفضل من تلك التي كان تيار «المحافظين الجدد» يتبعها في الفترة السابقة. فالثنائي يرى أن الوضع الأمني تحسن قياسا بالسنة السابقة، كذلك حقق المشروع الأميركي خطوات جيدة إلى الأمام بالتعاون مع دول الجوار والقوى الإقليمية الفاعلة.
الإدارة الأميركية مثلا فشلت في «تغيير الأنظمة»، ولكنها نجحت في تعديل «سياسة الأنظمة». وهي أيضا فشلت في «تغيير الخرائط السياسية»، ولكنها نجحت في تغيير خرائط التحالفات الإقليمية وتتجه الآن نحو تثبيت خرائط جديدة لمنظومة العلاقات بين دول الجوار وداخل كل دولة. وهذا النجاح الذي تدعيه مدرسة «الواقعية السياسية» التي تدير المصالح الأميركية في «الشرق الأوسط» يقوم على فكرة التعاون مع القوى الإقليمية لضبط الأمن تحت سقف توزيع الحصص وترتيبها وفق جدول أولويات يأخذ في الاعتبار ترسيم الحدود في إطار المصالح وليس الخرائط.
خرائط نفوذ
إعادة ترسيم الحدود تحت سقف المصالح لا تتطلب تغيير الخرائط السياسية للدول وإنما تقضي بإعادة تشكيل التوزع السكاني داخل الخريطة من دون تعديل هيئتها. كذلك تعتمد فكرة ترسيم حدود المصالح إعطاء دور للقوى الإقليمية الفاعلة في مناطق التماس الديموغرافي (الأهلي) والتنازل عن مواقع وتركها منطقة نفوذ للدولة المجاورة. وهذا ما يمكن ملاحظته من خلال مراقبة الانسحابات العسكرية الجزئية من جنوب العراق (البصرة وأربع محافظات غنية بالنفط) أو من خلال مراقبة التحركات العسكرية التركية في شمال العراق وما رافقها من إعلان عن تحالفات سياسية بين الأكراد والأحزاب السنية في محافظات تقع في غرب بلاد الرافدين.
فكرة تقطيع أوصال العراق تعدلت من سياسة تعتمد استراتيجية تعديل الخرائط إلى سياسة تعديل مواقع الطوائف في بلاد الرافدين والبناء عليها لإعادة هيكلة نفوذ دول الجوار في مناطق حيوية تقع على حدود العراق: إيران في الجنوب والوسط وتركيا في الشمال والغرب.
العراق الدولة اختفى من الخريطة بعد الاحتلال. وبقي العراق الساحة التي تعرضت إلى هزة أهلية أدت إلى اندفاع الطوائف والمذاهب إلى مغادرة مواقعها والانتقال إلى أمكنة متجانسة في هويتها العصبية الضيقة. وساحة العراق التي تحولت إلى منطقة للتنازع الأهلي/ الإقليمي دخلت منذ فترة طور توزيع المغانم والحصص (مناطق نفوذ لدول الجوار) من دون حاجة إلى تعديل حدود الخرائط. فالتقسيم السياسي/ الطائفي في طور الحصول، ولكنه سيكون على هيئة ترسيم حدود المصالح لا الخرائط.
اقتطاع العراق مناطق نفوذ يعتبر سياسة بديلة عن تقطيعه جغرافيا. فالخريطة ستبقى كما هي في الصورة بينما ستطرأ عليها تعديلات في الواقع وما يعنيه من امتدادات جغرافية ومذهبية وحيوية.
هذا «النجاح» الذي حققته مدرسة «الواقعية السياسية» في العراق سيدخل المنطقة في اهتزازات إقليمية ستكون لها تداعيات على مختلف الكيانات الصغيرة وتحديدا تلك النقاط الساخنة في لبنان وفلسطين.
الملف الفلسطيني دخل في قنوات ضيقة بسبب سياسة حكومة إيهود أولمرت الاستيطانية التي أخذت تهدد مسار المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية بالانهيار. وحين ينهار هذا المسار ستتبخر كل الوعود الأميركية وتتحول إلى غبار في مقابل معاودة المسار السوري - الإسرائيلي نشاطه الذي يقوم على استراتيجية الهدنة وتثبيت الأمر الواقع من دون تغيير أو تعديل في الخرائط السياسية.
الملف اللبناني بدوره دخل في قنوات ضيقة بسبب انغلاق انتخابات الرئاسة وعدم قدرتها على الخروج من دائرة «الفراغ الهادئ». وعدم الخروج يعني وقوع لبنان في مطب «الفوضى الدستورية» وما تنتجه من تجاذبات أهلية قد تؤدي إلى تغيير خريطة بلاد الأرز وفق نموذج ليس بعيدا عن سياسة توزيع الحصص ومناطق النفوذ التي أخذت ترتسم معالم حدودها في العراق.
هذه المتغيرات الحاصلة والمتوقعة على ساحات العراق وفلسطين ولبنان، تعيد طرح السؤال: هل تراجعت الإدارة الأميركية عن مشروع تغيير «الخريطة السياسية» لدول «الشرق الأوسط»؟
الجواب نعم ولا. نعم، تراجعت واشنطن عن فكرة إعادة رسم الخرائط السياسية مؤقتا. ولا، إنها أخذت تسلك طريق تكييف الخطة وفق معايير تأخذ في الاعتبار تركيبة المنطقة الديموغرافية والإقليمية. فالتغيير حصل في مناطق وهو في طريقه إلى الحصول في مناطق أخرى. وعنوان التغيير هو الانتقال من فكرة رسم خرائط سياسية للدول إلى فكرة ترسيم حدود مصالح الدول في إطار اقتطاع مناطق نفوذ متجانسة أهليا للقوى الإقليمية والجوارية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1938 - الأربعاء 26 ديسمبر 2007م الموافق 16 ذي الحجة 1428هـ