لم يكن لقب «مانديلا البحرين» الذي أطلق على الموسيقار مجيد مرهون (شفاه الله) هو ضمن إطارالمجاملات والتلميعات الشائعة في مجتمعنا المحلي وحتى في منظومته الإقليمية، ولم يكن تشبيها طريفا يشير إلى ما يحظى به المناضلان من سمرة وتشابه في لون البشرة، فهذا اللقب النضالي المشرق بالتضحية والمحبة ناله واستحقه المناضل والموسيقار مجيد مرهون بجدارة واستحقاق لكونه أتى متطابقا نوعا ما مع التجربة والخبرة الإنسانية النضالية التي مرّ بها المناضل العالمي والزعيم الجنوب إفريقي نيلسون مانديلا، وإن اختلفت السياقات والمحاور الزمكانية وأبعاد الصراع المتعددة!
ولعلّ المطلع على منطلقات ومخارج كلتا التجربتين النضاليتين بجذرهما الإنساني الواحد سيجد أنهما تندغمان في ما تنبجسان به من حب وألفة أسطورية سطرت صفحات ناصعة من تضحيات خالدة، فعلى رغم قسوة الأوضاع وسوداويتها المتحجرة كأنما هي عصية على التفتيت فإنْ طاقة الانبجاس الأسطورية تلك أعطت لمفردات النضال السياسي مرجعيتها العليا بما تتضمنه من حراك اجتماعي وحقوقي مشروعي، كما هي أنجزتا بتفانٍ أوشك أن يكون معجزا الحقيقة النضالية السرمدية بما طرحتاه من بديل متسامي في معاركه عن ما هو مفروض عليه قهرا وقسرا من قوالب اجتماعية وسياسية واقتصادية متخلفة.
ما نعرفه ويعرفه الكثير من أنّ تجربة مرهون النضالية بمحصولها التراكمي لم تؤسس أعرافا وشعائر للحقد الطائفي والإثني، ولم تستثمر في المزايدة والابتزاز، ولم تتدنَ إلى مستوى تصفية حسابات انتهازية تندلع بين الحلفاء أكثر مما هي مندلعة بين الخصوم وذلك كما شاهدنا في العديد مع التجارب وفي الحفلات والأماسي «النضالية»!
فما هو الانطباع الذي ستخرج به عزيزي القارئ أمام ما يخلب ويعجز الإدراك عندما تقلب الصفحات النضالية لمجيد مرهون ابن الفقراء الكادحين؟!
فمرهون لم يخرج من ما قضاه في زنزانته من عقدين ونيف ودفع ثمنه غاليا من سنين عمره بعدما اتهم بتنفيذ عملية بطولية شلت جهاز القمع والتنكيل والاستعباد حينها وأفقدته رشده، لم يخرج مرهون من ظلمات الزنزانة تلك مشبعا بالأحقاد والكراهات لجلاديه وطاعنيه وقامعيه، لم يفخخ دماغه وجسده ويفجره في جموع الأبرياء على رغم فيوض الألم والمعاناة، لم يبن مجده النضالي من تسخير واستغلال الغير، وضرب الجموع والحشود ببعضها بعضا كي ينل قطافا مريئا، لم ينشأ حاقدا على الأثرياء والإقطاعيين على رغم كونه فقيرا ابن فقراء، وأحد الضحايا الشرعيين للتزاحم البربري على جميع القصعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية!
لم يحشُ مرهون غطاء تقدميا ومعاصرا بخثارة الرجعية ومخلفات الوعي واللاوعي الجمعي، فمرهون كان تقدميا وسباقا ورائدا في مجتمعه وعصره ليس بما يتبناه من أطر أيديولوجية وما يتعلق به من أفكار ومشاريع اكتملت ولم تكتمل وإنما ابتدأت وسارت على سليقة الحب والوئام والتعلق بالجميع فكان بذلك الأكثر تقدمية وسلفية في الوفاء لعقيدة وفطرة الحب والتسامي، وهو قد حقق بذلك نبوغ الروح في الوقت الذي كان النفوق نصيب أرواح الساسة والمثقفين ورجال الدنيا والدين وتجار ومضاربي الشك واليقين!
الموسيقار مجيد مرهون، والذي ما انقطع عن التأليف الموسيقي في زنزانته على أكياس الإسمنت في الوقت الذي كانت تدرس فيه مؤلفاته بالاتحاد السوفياتي ويشاد بها في الكثير من الحواضر العالمية المتقدمة بحسب شهادة معاصريه في تلك الفترة، جسد في نضاله وفي سكونه روح الموسيقى وأبدع فلسفاتها ليس في براعة مجردة تحترف استخدام الأدوات الموسيقية والتأليف الموسيقي وإنما في تبدعه في إضفاء روحية الانسجام والنظم والترابط للأجزاء في مكون بديع ومتناسق، وحتى في ما تضفيه الخبرة الإنسانية المعاشة والمبدعة في شتّى صنوفها من مضامين وقيم راقية على هذا التكوين الموسيقي البديع!
المبدع مجيد مرهون لم يكن هاجرا ومهجورا في أعالي الأبراج العاجية كالكثير من النخب، ولم يكن يعاني مما زعم المبدعون معاناته من اغتراب مفرط في الوعي الجمالي وفي حجم الوعي النخبوي الذاتي بالمثل الفكرية والثقافية والقيمية، بل إن مرهون كان حاضرا ومشاركا في جميع الفعاليات المجتمعية الراسخة ومنها مشاركته بما يجود به وعيه الجمالي والفكري والثقافي من إبداع، وذلك بمحض إرادته في المواكب والشعائر الحسينية بالبلاد، وكأنما هو بذلك ينمذج استحالة أنْ ينفصل المبدع عن مجتمعه ووسطه البيئي والثقافي مهما تكن مقوماته وأوساطه، فالنهوض إنّما يكون بالنهوض بهذا المجتمع لا نفضه لكأنما هو غبار!
مجيد مرهون للأسف كان وما زال ضحية من الضحايا الكثر الذين لم يتم تأهيلهم من آلام وجروح وملمات المرحلة السوداء السابقة، وهو مازال مع كل ذلك ينزف وينز في الساحات والمنصات محبة وعرفانا ووئاما!
إنْ كان المبدع والموسيقاروابن البحرين البار مجيد مرهون ثروة إنسانية لا تعوض بثمن ومورد قومي لا يمكن أن يدرج في الموازين والحسابات والمؤشرات، فإننا وإن كنا ندعو إلى أن تتشرف الدولة بإيفاء هذا الإنسان العظيم أبسط حقوقه وإن كان ذلك بوسائل وأساليب كلاسيكية معتادة مثل تسمية «مهرجان البحرين الدولي للموسيقى» بـ «مهرجان الموسيقار مجيد مرهون الدولي للموسيقى»، فإننا نخشى أن يشكل ذلك إساءة لهذا الرمز الكبير وخصوصا مع ما شهده المهرجان الأخير من قصور تنظيمي فادح وتغليب فاضح لبذخ الشكل وزخرفه على حساب المضمون والقيمة التواصلية الاجتماعية لمهرجان دولي كهذا، فمجيد مرهون ليس بتمثال مبهر قشرة ولكنه فارغ ومجوف محتوى، ويمكن أن يشكل تكريم مرهون رسميا بحسب الأعراف المتبعة إساءة بالغة له خصوصا مع عدم الحسم في المعركة الوجودية بين القطاع المؤسساتي والإقطاع القروسطي في مذابح الفن والثقافة!
لذلك فإننا ندعو منظمات المجتمع المدني ذات النفس الحرة والمستقلة والأبية أن تتفرد بإيجاد جائزة تكريمية وتطلق مشروعا رائدا باسم الموسيقار مجيد مرهون لتكريم الإبداعات الموسيقية المحلية في مختلف صنوفها ومدارسها وتياراتها المتنوعة.
وإن كان من عتب حار نوجهه لمجيد مرهون على سرير المرض فهو ربما بسبب تعذيب رئته البيضاء بسواد الدخان والنيكوتين، بحسب ما جاء على لسان زوجته في إحدى الصحف المحلية، فرئته ليست له وحدَه، وإنما رئته هي رئتنا الموسيقية جميعا التي نستنشق بها حبا وانسجاما أبيض!
فيا والدي الغالي شفاك الله وعافاك ألا تكفينا أدخنة وملوثات الطائفية والأحقاد الجاهلية المغرقة فضائنا الأكثرعمومية حتى تدخل النيكوتين العابث إلى رئتك/ رئتنا التي لم تبق لنا إلا هي مأوى دافئا لفلذات أرواحنا لنستنشق بها ليمون المحبة الغراء والانسجام التليد؟
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 1938 - الأربعاء 26 ديسمبر 2007م الموافق 16 ذي الحجة 1428هـ