المواجهة الدموية التي حصلت في رفح (قطاع غزة) بين حركة حماس ومجموعة إسلامية تطلق على نفسها «جند أنصار الله» تستحق القراءة في جانبها الفكري في اعتبار أن ما حصل يكشف عن تجاذبات سياسية على قاعدة الاجتهاد في تأويل النصوص. فالمواجهة سياسية في إطارها الميداني ولكنها تعكس في جوهرها منابت أيديولوجية ساهمت في تأسيس تشكيلات تنظيمية تبالغ في توهماتها وتصوراتها من دون رؤية واقعية تتصل مباشرة بالفضاءات الزمنية والبيئة الاجتماعية والموقع الجغرافي. وسياسة إخراج النص من محيطه وتاريخه وعزله عن ظروفه والبناء عليه انطلاقا من تخيلات تنسج في النهاية توهمات أيديولوجية تنزلق نحو التطرف وخوض معارك بعيدة عن منطلقات الفكرة وأهدافها.
عبداللطيف موسى (أبو النور المقدسي) وصاحبه (أبو عبدالله المهاجر) انطلقا من فكرة الولاية الإسلامية (أمارة رفح) بصفتها تشكل المكان الذي ستتوجه منه نحو الهدف (القدس). الفكرة بسيطة وصحيحة في مضمونها الأيديولوجي ولكنها ساذجة في رؤيتها السياسية لأنها تأسست على توهمات رسمت صورة متخيلة لا صلة لها بالواقع. وهذا التوهم الذي ذهب بعيدا في تخيلاته الأيديولوجية استفز حركة إسلامية ودفعها نحو الاستنفار واتخاذ قرار بالمواجهة الدموية حتى لا تعطى «إسرائيل» ذريعة لشن هجوم على القطاع وتدمير غزة كما حصل في عدوان شتاء 2008 - 2009.
«حماس» الإسلامية لم تتحمل خطاب فصيل أو مجموعة إسلامية اتخذت من «النص» قاعدة انطلاق للتشويش على حكومة إسماعيل هنية فبادرت إلى تصفيتها واقتلاعها من جذورها في معركة خاطفة وحاسمة. وكانت الذرائع التي استخدمتها «حماس» لتبرير خطوتها تلك تشبه كثيرا تلك الذرائع التي سبق وساقتها السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية حين انجرفت إلى معركة ضد خطاب «حماس» المتطرف في تصوراته الأيديولوجية.
المقارنة بين الخطابين قياسية ونسبية ولكنها تعطي فكرة عن خطوط متوازية في رؤية الواقع والتعامل السياسي مع تعقيداته وتعرجاته. قبل ثلاث سنوات اتهمت السلطة الفلسطينية «حماس» بالتطرف والمبالغة والمزايدة واحتمال توريط غزة في حرب غير مدروسة ستؤدي إلى تدمير القطاع وعزله عن العالم. وردت «حماس» على السلطة واتهمتها بالمغازلة والمهادنة والتفريط بحق العودة والتحرير الشامل والكامل والتخلي عن القدس وغيرها من شعارات ويافطات. وكانت النتيجة حصول استفزازات متبادلة تحت عناوين غير موحدة انتهت بمواجهة دموية وانقسام السلطة وتشكيل حركة «حماس» حكومة تابعة لها في غزة.
الآن بعد تجربة ميدانية قاسية في الحكم والإدارة بدأت «حماس» تعقلن خطابها السياسي وتهذب انفعالاته الأيديولوجية. فالحق في إطلاق الصواريخ الذي اتخذته «حماس» ذريعة للانشقاق والانقسام والانفراد بالسلطة لم يعد أولوية في برنامج حكومة هنية. والتحرير الشامل والكامل من البحر إلى النهر لم يعد هاجس «حماس» الرئيسي بل تحول إلى موضوع يحتمل التأجيل بعد أن أقرّ رئيس المكتب السياسي خالد مشعل بفكرة الدولة الفلسطينية على حدود 1967. والمواجهة الأساس مع «إسرائيل» تحولت إلى مهمة ثانوية وتراجعت إلى مواقع خلفية لترتقي مكانها مهمات أخرى وهي ضمان السيطرة على القطاع ومنع قوى نامية من المنافسة ومخالفة «فتح» ومناكفتها والتخطيط لاحتواء السلطة في الضفة الغربية.
الآن بدأت سلطة رام الله بالرد على «حماس» من موقع تحميلها مسئولية ما يحصل من انزلاقات أيديولوجية في القطاع. واتهام السلطة حركة «حماس» بأنها ساهمت في فتح قنوات لعبور الصوملة والأفغنة إلى القطاع و«طلبنة» غزة على غرار نموذج «طالبان» في جبال تورابورا يأتي في سياق مضاد ولكنه يتشابه في منطقه في حال مقارنته بما حصل يوم الجمعة الماضي بين سلطة هنية و«جند أنصار الله». فالجند اتهموا «حماس» بالعلمانية ومخالفة الشرع ومهادنة العدو ومغازلة الاحتلال وتعطيل التحرير (العودة) ومنع بناء إمارة مقدسية في غزة. وحماس اتهمت «الجند» بالتطرف والمبالغة والتكفير وقلة التفكير وجرجرة القطاع إلى الفوضى وأعطاء ذريعة لتل أبيب لتبرير الحصار والاعتداءات.
المنطق يتشابه بالمقارنة بين الخطابين. والقياس النسبي بين التجربتين يكشف عن مقاربة نموذجية تصل إلى حد التطابق. فصيل «جند الله» استخدم خطاب «حماس» الذي استخدمته سابقا ضد «فتح». وحماس استخدمت خطاب سلطة رام الله ضد «جند الله» لتبرير تلك المواجهة الدموية ضد «إمارة رفح» الإسلامية.
المجزرة التي قادتها «حماس» الجمعة الماضي ليست الأولى في قطاع غزة منذ نجاحها في السيطرة على مقاليد الحكومة. فهذه المواجهة قد تكون العاشرة في سلسلة حلقات من الاصطدامات الدموية ضد الفصائل والأحياء والمواقع المنافسة. ومحصلة القتلى والجرحي والضحايا التي أنتجتها التجربة الدموية خلال سنوات ثلاث وصلت إلى مجموع لا يبرر سياسيا وأيديولوجيا كل الذرائع التي شكلت الدافع للانقسام والانفصال عن الضفة الغربية. حماس بدأت تأكل من الصحن نفسه، وتتلقى اتهامات من مواد سبق واستخدمتها ضد غيرها في لحظات مضت.
الصراع على غزة الذي دخل سنته الثالثة مرّ في محطات وتحولات وصولا إلى المواجهة الأخيرة بين حركة إسلامية وتنظيم إسلامي، يعكس في النهاية أزمة خطاب «حماس» وفشله في تأسيس نموذج متقدم يبرر أسباب الانقسام والانفصال أو يفسر معنى تشكيل حكومة موازية تعطل على السلطة الفلسطينية إمكانات التفاوض من جانب وتمنع الفصائل الأخرى حق المقاومة من جانب. وهذه الازدواجية في الممارسة تلخص مأزق الخطاب الأيديولوجي الذي يبالغ في توهماته فينتهي في سياق التجربة إلى انقلاب ميداني ضد المنطلقات النظرية التي استخدمها قبل أن يستولي على السلطة.
هناك فرصة للمراجعة النقدية اعتمادا على التجربة. وما حصل في رفح يمكن أن يتكرر لأن المنطق الأيديولوجي الذي استخدمته «حماس» لتبرير انفصالها عن سلطة الضفة الغربية يؤسس بدوره حالات موازية من الشلل السياسية (البؤر العنيفة) التي تطمح في إعلان «إمارات إسلامية» في وقت تكون عاجزة على الدفاع عنها لمدة ساعات.
مشكلة «حماس» بدأت أيديولوجية مع السلطة الفلسطينية وانتهت سياسية. وهي الآن أخذت تتطور ضد فصائل أخرى، وبدأت تتناسل في إطار خطابات وهمية ومتخيلة لتنفجر تباعا كالقنابل العنقودية ضد الناس في الأحياء والمساجد.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2537 - الأحد 16 أغسطس 2009م الموافق 24 شعبان 1430هـ
دولة التفريخ
ألا تعتقد يا أستاذ وليد , أن دولة عربية معروفة هي التي تزرع بأموالها مثل هذه الحركات في خاصرة الأمة خدمة لأجندة معينة , والمصيبة أنهم يكفرون ويحرقون الأمة , انظر لكتاب " تحصين النفوس في جواز قص الرؤوس " لترى مدى الإختراق لأجهزة الإستخبارات لهم . وأعتقد أن تصرف حماس معهم كان في محله .