العدد 1937 - الثلثاء 25 ديسمبر 2007م الموافق 15 ذي الحجة 1428هـ

تجربة الـ «إف بي آي»

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

كشفت صحيفة الـ «نيويورك تايمز» أن المدير السابق لمكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) جون هوفر أوصى العام 1950 باعتقال 12 ألف أميركي، لأنه اعتبرهم يشكّلون «خطرا محتملا» على أمن الولايات المتحدة، حسبما أوردته صحيفة «الحياة» الاثنين الماضي.

هوفر عرض على الرئيس هاري ترومان خطة للاعتقالات الجماعية مع اندلاع الحرب في شبه الجزيرة الكورية، وذلك في رسالةٍ وجّهها إلى مستشار البيت الأبيض للأمن القومي آنذاك، تم الكشف عنها ضمن وثائق أخرى رفعت عنها السرية أخيرا. ولأن عملا منفلتا مثل هذا الإجراء لا يمكن أن يقبله الرأي العام، كان لابدّ من تغطيته بشعارٍ فضفاضٍٍ خادعٍ وكبير: «حماية البلاد من الخيانة والمخربين والجواسيس».

هوفر بقي في منصبه المخابراتي لعدّة عقود، ولذلك لم يكن يفكّر بطريقةٍ دبلوماسيةٍ عاقلةٍ لمعالجة مواقف المعارضين لسياسة بلاده الخارجية في كوريا، وكانت هناك قطاعاتٌ من الشعب الأميركي متأثرة بالفكر اليساري تحلم بتغيير الواقع الأميركي باتجاه أكثر عدالة وإنسانية في مجتمع رأسمالي لا يرحم.

هوفر توفي العام 1972، والمؤرّخون يتهمونه اليوم بأنه استغل نفوذه ومنصبه، وانتهك الحقوق المدنية للأميركيين بتعليق حقهم الدستوري في المثول أمام محكمة، ما يعني منعهم من الاحتجاج أمام القضاء على شرعية الاعتقال القائم على التخمين وسوء الظن والتقدير. بل ويذهب بعضهم إلى أن الهوس دفعه إلى «تضخيم الأخطار التي تتعلق بالأمن القومي».

لحسن حظّ أميركا والأميركيين فإن الرئيس ترومان وخلفه دوايت آيزنهاور لم يوافقا على هذه الخطة الأمنية، والتزما موقفا سياسيا سليما سُجّل لهما في التاريخ. إلاّ أن أميركا كانت على موعدٍ آخر مع تجربة جرى فيها انتهاك واسع للحقوق المدنية، حين برز السيناتور اليميني جوزيف ماك آرثر ليكون عنوانا عريضا لحقبةٍ سوداء أصبحت تعرف بـ «المكارثية» في التاريخ الأميركي، وهذه المرة بحجّة «حماية أميركا من الخطر الشيوعي الذي يسعى للقضاء على المسيحية»! وكان هناك خلطٌ متعمدٌ بين الخطر الشيوعي وبين القوى اليسارية والليبرالية والنقابية التي تطالب بإصلاح ظروف العمل، وتحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وتقليل الفوارق بين الطبقات.

مكارثي قاد حملة «الخوف» التي استمرت خمس سنوات، وبدأها بخطابٍ أعلن فيه أن وزارة الخارجية أصبحت وكرا مليئا بأعضاء الحزب الشيوعي وجواسيس الاتحاد السوفياتي! ولوّح بورقةٍ تضم قائمة بأسماء 205 متهمين. وفتح الـ «إف بي آي» تحقيقا مع أكثر من ثلاثة آلاف دبلوماسي، وفصل وزير الخارجية آنذاك مئة شخص من العمل بالوزارة.

لم تتوقف الحملة عند الاعتقال والطرد من العمل والمحاربة في الرزق، بل نزلت أميركا الديمقراطية إلى درجةٍ كبيرةٍ من الابتذال يصعب تصديقها الآن، حين تم منع دخول كتب مئات الكتاب والصحافيين والأساتذة الجامعيين الأوروبيين!

من مفارقات القدر، أن الرجل الذي أخاف الشعب الأميركي لسنوات وجعله يعيش حياة ملؤها الشك والارتياب، واتهم عاصمة السينما (هوليوود) بأنها تنشر الشيوعية في أفلامها... مات منبوذا مريضا مدمنا، بعد أن قدّم للمحاكمة، وأدانه الكونغرس نفسه بتهمة الفساد والتزوير!

الأميركيون ما زالوا يطرحون على أنفسهم سؤالا: ماذا لو استمع ترومان إلى الطفيلي الأحمق هوفر باعتقال 12 ألف شخص لمجرد أنه اعتبرهم يشكلون خطرا «محتملا» على الأمن الأميركي؟

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 1937 - الثلثاء 25 ديسمبر 2007م الموافق 15 ذي الحجة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً