العدد 1937 - الثلثاء 25 ديسمبر 2007م الموافق 15 ذي الحجة 1428هـ

أسئلة مزعجة في عالم الغضب

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

بينما يلملم العام 2007 أوراقه ويختتم أعماله بعد أيام قلائل، تجتهد الصحف ووسائل الإعلام المختلفة في كل أرجاء العالم، في طرح أسئلة بشأن أهم حوادث العام، وعن شخصية العام.

خطر لي أن أخرج على المألوف، وأختار «الغضب» شخصية ذلك العام الماضي، ومن ثم أطرح الأسئلة الصعبة والمزعجة عن الغضب، لماذا يغضب الناس، بل متى تغضب الشعوب، وكيف تعبّر عن غضبها!

وأظن أن العام 2007 تميز بهجوم الغضب الشعبي من كل اتجاه وفي كل اتجاه، ولا نستطيع أن نلمح ساحة واحدة في منطقتنا العربية والإسلامية، قد نجت من فوران الغضب بمختلف درجاته، من الغضب الرقيق إلى الغضب الصاخبّ وتأمل موجاته المتدفقة من أفغانستان وباكستان شرقا، حتى المغرب والجزائر غربا، مرورا بفلسطين ولبنان والعراق، امتدادا إلى الصومال والسودان جنوبا، وفي المنتصف تأتي مصر، فعلى رغم أنها كانت توصف دائما بأنها دولة هادئة مستقرة، وأن شعبها ساكت ساكن، يعرف المرح ويمارسه أكثر مما يعرف الغضب وتوابعه، إلا أنها قد خرجت في العام 2007 عن المألوف، ومارست الغضب بأشكاله وأنواعه.

وقد شاع القول إن الشعوب تغضب حين تجوع، طالما أن الشعوب تمشي على بطونها، إلا أن الواقع المعاش قد أضاف إلى ذلك القول قولا آخر، هو أن الشعوب تغضب أيضاَ حين تفكر وتدرك ما يجري لها وما يحدث حولها. فكيف لا تغضب شعوبنا وهي ترى شرايين الدماء تتدفق غزيرة من العراق إلى فلسطين، ثم تصعد جنوبا نحو السودان والصومال، لكي تعود فتتدفق عبر الصحراء نحو المغرب العربي الذي يضطرب بعودة الإرهاب المسلح وتفجيراته المجنونة... وكيف لا تغضب شعوبنا وهي ترى أن استقلالها وسيادتها الوطنية قد تبددت، بعد أن عاد الاستعمار الغربي في صورته الجديدة ليتحكم فيها، ويستلب استقلالها ويهدر كفاحها ويستنزف ثرواتها، باسم الحماية أو التحالف أو الصداقة!

وكيف لا تغضب شعوبنا وهي ترى أن مسيرتها قد انتكست وارتدت عقودا وربما قرونا إلى الوراء، فبدلا من أن تلحق بعصر الحداثة والعلم والتكنولوجيا والحرية وحقوق الإنسان, وقعت في أسر تحالف القهر والفقر. تحالف الفساد والاستبداد، تحت الرعاية والحماية الأجنبية، التي تحالفت مع نظم حكم جائرة مستبدة لتحكم القبضة الحديد على مصائرنا.

وكيف لا تغضب شعوبنا وهي ترى أن حقوقها الأساسية والبديهية في التعليم والصحة والغذاء والسكن، قد تراجعت بشكل حاد بسبب الغلاء الفاحش والفساد المستشري وسوء توزيع الدخل وتوحش رأس المال، تحت غطاء مزيف من الشعارات السياسية والفتاوى الدينية، التي تقول «ارضوا بما قسم الله لكم ولا تكونوا من الطماعين!»، وكأنما المطلوب منا هو الرضا بالقهر والقناعة بالفقر.

في العام 2007 غضب المصريون مثلا، كما لم يغضبوا منذ عقود، وسيذكر التاريخ أن هذا العام قد شهد غليانا واحتجاجا واسع النطاق في مصر، شل معظم طبقاتها وفئاتها وتقسيماتها الاجتماعية، من العمال إلى الفلاحين، ومن القضاة إلى الأطباء والمدرسين، ومن الصحافيين إلى باقي المهنيين، لكنها المرة الأولى منذ سنوات طويلة ينضم موظفو الحكومة علنا إلى قافلة الاحتجاجات، فإذا ببعضهم ينظم إضرابا عن العمل ومسيرات غضب واعتصامات في الشارع تستمر أياما مطالبين ببعض حقوقهم... هكذا شهد العام نحو 500 احتجاج وإضراب واعتصام طلبا للحقوق.

ويخطئ من يفسر هذه الاحتجاجات الغاضبة في الشارع المصري، على أنها مزايدات فئوية تبحث عن مكاسب اقتصادية فقط، أو على أنها استفزازات محدودة مدفوعة الأجر تحركها جهات معادية وتمولها منظمات أو حكومات أجنبية، تحاول هز استقرار البلاد وتعكير صفوها... إنها أعمق من ذلك كله. وإذا كنت لا أستبعد استغلال جهات أو حكومات أجنبية لمثل هذه الاحتجاجات، فإني أرى أن الأصل والأساس هنا في الداخل، وهو الذي حرك الساكتين وأنطق الصامتين وأشعل غضب الغاضبين فقالوا أعطونا حقنا المهدر.

وعلى رغم اعترافي بأن تردي أحوال المعيشة في ظل الغلاء الفاحش واتساع مساحة الفقر وزيادة معدلات البطالة، وتركز الثروة وزواجها غير الشرعي بالسلطة، هو مفجر الغضب، إلا أنني أضيف الاحتقان السياسي الناتج عن تباطؤ الإصلاح الديمقراطي الموعود، والذي كان منتظرا في العام 2007 تحديدا، لكن العام انتهى من دون تقدم حقيقي في مجال فك الاحتقان السياسي أو حل الأزمة الاقتصادية الاجتماعية الخانقة، بل ما حدث هو العكس.

لقد بدأ العام إياه ببشائر تحول سياسي مهم، حين طرحت أفكار تعديل الدستور المعمول به منذ العام 1971، ليطلق حزمة من الإصلاحات الديمقراطية، ويعيد تعزيز الحريات العامة والمشاركة الشعبية وتداول السلطة في ظل انتخابات نظيفة.

وبينما كان التفاؤل يسود أملا في تقدم ديمقراطي يعطي بعض التعويض عن سلبيات الإصلاح الاقتصادي الجاري، إذا بالتعديلات الدستورية تقع في أيدي جماعة ترزية القوانين عديمي الكفاءة، ليحولوها عن طريقها السليم، والخلاصة أن الغضب العام قد ازداد بعد أن أُفرغت التعديلات الدستورية من معظم أغراضها.

لقد سبق أن قلنا وكررنا أن في مصر الآن هامشا من الحرية، وخصوصا حرية الصحافة, ولكنه ليس الهامش الذي يصحح وحده مسار التطور الديمقراطي الذي نتمناه، بل الذي يتوقعه الأشقاء العرب من حولنا، لكي يهتدوا به ويسيروا على منواله... صحيح هناك تعددية حزبية (24 حزبا) ولكنها تعددية شكلية، لأن الحزب الوطني الحاكم يختلط بالحكومة ويمتزج بالدولة ويستعين بسلطاتها غير المحدودة، وصحيح هناك انتخابات عامة، رئاسية وبرلمانية، ولكنها عرضة للتدخل مصبوغة تاريخيا بميراث التزوير، فضلا عن أن التعديلات الدستورية الأخيرة نزعت عنها الإشراف القضائي الكامل، وصحيح أن هذه التعديلات أقرت انتخاب رئيس الجمهورية من بين متنافسين متعددين في انتخابات عامة، لكن الشروط التعجيزية المطلوبة، تكاد تحصر المنافسة في مرشح الحزب الحاكم وحده. فإن كان ذلك كله، قد كان مصدر غضب الناس، خلال العام 2007، فإنه غضب إضافي يتراكم فوق الغضب الرئيسي الناتج عن سياسات الإصلاح الاقتصادي المطبقة منذ سنوات، باسم اقتصاد السوق وإطلاق حرية رأس المال وتحرير الأسعار وبيع القطاع العام، وتطبيق الخصخصة بمعايير تتناقض مع الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية المحلية، ما أدى إلى تراكم أعبائها بالكامل على كاهل الفقراء، فاتسعت دوائرهم، بينما ضاقت دائرة الأثرياء الجدد القافزين على السلطة بعد المال، في ظل حماية داخلية وخارجية!

فإن انتقلنا من مصر إلى لبنان، فإن الغضب عارم وهو موجه بالدرجة الأولى نحو الطبقة السياسية والزعامات الطائفية، من الموالاة والمعارضة على السواء، لأنها فشلت في التوافق على حل وسط، لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، وها هو البرلمان يؤجل جلسة الانتخاب للمرة العاشرة على التوالي، تعبيرا عن غياب التوافق السياسي بين الفرقاء المتنازعين، على رغم كل الضغوط والضغوط المضادة التي تمارسها القوى الإقليمية والدولية، وفي طليعتها الولايات المتحدة الأميركية، التي أصبح تدخلها يحمل إشارات التهديد الخشن، ولا ندري متى وكيف يتفق المتصارعون على السلطة! أما فلسطين فقد دخلت خلال العام 2007 دوامة تبدو نهايتها بعيدة تماما، فقد جاء استيلاء حركة حماس الإسلامية على قطاع غزة، وتصفية مراكز ومؤسسات السلطة الوطنية الفلسطينية وحركة فتح، مؤشرا على الخطر المزدوج الذي ولّد غضبا شعبيا فلسطينيا وعربيا.

وعلى رغم موجات الغضب، إلا أن تطورات الحوادث المتسارعة، خصوصا بعد مؤتمر أنابوليس في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، تشير إلى أن الفرقة بين حماس من ناحية والسلطة وفتح من ناحية أخرى، هي فرقة أصعب من أن تلتئم قريبا، على رغم الوساطات، وبالتالي فإنها تدفع نحو تأسيس كيان مستقل في غزة تحت هيمنة حماس، مقابل كيان آخر في الضفة الغربية تحت هيمنة فتح والسلطة الوطنية.

وما بين هذا وذاك اندفعت العدوانية الصهيونية سريعا لتجني مكاسب الصراع الفلسطيني من ناحية، ولتجني ثمار أنابوليس من ناحية أخرى... بينما ملايين الفلسطينيين ينتقلون حزانى غاضبين من العام 2007 إلى العام 2008، أي من محنة إلى مأساة، بينما حدة الغضب العام تزداد اشتعالا. أما وأن العام 2007 يطوي أوراقه الأخيرة، غير مأسوف عليه، فإنني أتمنى أن يفطن حكامنا الأفاضل، إلى حقيقة محركات كل هذا الغضب ومسببات الاحتقان، قبل أن ينفلت الزمام وتنفلت الأزمة إلى ما وراء الغضب.

وعلى المزايدين والمنافقين أن ينظروا قليلا في المرآة، ويتركوا لنا فرصة لنتأمل فيما يمكن أن يحمله لنا العام الجديدة غير الغضب وتوابعه.

خير الكلام:

قال تعالى: «إن المنافقين هم الفاسقون»(التوبة:67)

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 1937 - الثلثاء 25 ديسمبر 2007م الموافق 15 ذي الحجة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً