تمثّل مناسبة ميلاد السيّد المسيح محطّة تلتقي عندها الرسالتان المسيحيّة والإسلاميّة، إضافة إلى تجسيدها سلسلة من القيم الروحيّة والأخلاقيّة المنفتحة على أصالة الوجدان الإنساني وضميره وحركته في الحياة، كقيم المحبّة والسموّ الروحي والتسامح ورفض الاستكبار والعطاء على مختلف المستويات. وتمثّل هذه المحطّة مناسبة لنتوجّه من خلالها إلى المسلمين والمسيحيّين في العالم، ومن خلالهم إلى البشريّة جمعاء، في إثارةٍ لجُملة من الأمور والمعطيات:
أوّلا: إنّ ما يجري في العالم اليوم، من انتهاكات فادحة لحقوق الإنسان، على المستويين الاجتماعي والسياسي، يمثّل انتهاكا سافرا لكلّ القيم التي جاء بها السيّد المسيح (ع) وأكّدتها الرسالات السماويّة كلّها؛ الأمر الذي يستدعي أن يقف كلّ المعنيّين بالدعوة أو التبشير بهذه القيم موقفا صلبا وواضحا لا لبس فيه ضدّ هذه الانتهاكات.
ثانيا: إنّنا نعتقد أنّ المشكلة التي تضغط على الواقع العالمي حاليّا ليست هي مشكلة التبشير المسيحي أو الدعوة الإسلامية؛ ليجري الحديث في كيفيّة تأمين مساحات من الحرّية لحركة التبشير المسيحي في العالم الإسلامي، وكيف نفسح في المجال لحركة الدعوة الإسلاميّة لتأخذ حرّيتها الزمانيّة والمكانيّة في العالم المسيحي، وفي الغرب خصوصا؛ بل إنّ المشكلة تتمثّل في حركة الاستكبار العالمي الذي يُمارس أبشع عمليّة اضطهاد للمسلمين وللشعوب العربيّة، ولا يستثني في ظلمه المسيحيّين وكلّ من يقف حجر عثرة في وجه مشاريعه.
ثالثا: إنّنا نعتقد أنّه قبل أن يتمّ الحديث عن التبشير، كما في الدعوة الأخيرة التي أطلقها بابا الفاتيكان، نرى أنّ الأولويّة تتمثّل في السعي لتهيئة بيئة روحيّة أخلاقيّة عالميّة ضدّ كلّ الممارسات الشيطانيّة التي تُمارس تحت غطاء السكوت المسيحي، من احتلالٍ وسيطرة وهيمنة ومصادرة لثروات الشعوب وقضاياها، ولا تستثني في ذلك التغاضي الإسلامي عن الممارسات التي تتمّ باسمه، ولا سيّما التفجيرات الوحشيّة المتنقّلة التي تطاول الأبرياء في العالم الإسلامي وغيره.
وإنّنا ندعو من موقعنا الإسلامي إلى التعاون مع الفاتيكان وغيره من المؤسّسات المسيحيّة وغير المسيحيّة لخلق بيئة إنسانيّة عالميّة يُصار فيها إلى الخروج من دائرة المفردات الأخلاقيّة العامّة، إلى رصد تلك المفردات في حركة الواقع، لتُنزع الشرعيّة المسيحية والإسلاميّة عن كلّ الممارسات التي تحمل في داخلها مضامين الظُلم والطغيان والإرهاب والاحتلال والوحشيّة ضدّ الإنسان كلّه.
رابعا: إنّنا نؤكّد ضرورة أن يلتقي المسلمون والمسيحيّون على مواقع اللقاء وكلمة السواء؛ وذلك بالتأكيد على الإيمان بوجود الله في مقابل الإلحاد، وعلى اليوم الآخر الذي يُعطي للمسئوليّة بُعدها الإيمانيّ، وعلى مواجهة الظلم المتمثّل بالاستكبار الدولي والاجتماعي والشخصي الذي يُصادر حقوق الإنسان في إنسانيّته؛ لينطلق الإسلام والمسيحيّة معا في الدعوة إلى أن يعيش الإنسان إنسانيّة الآخر في التزامه الديني على أساس الحديث المأثور: «لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه ويكره له ما يكره لها»؛ وبذلك يُمكن تأليف جبهة إسلاميّة ـ مسيحية عالميّة تدافع عن حقوق الإنسان كلّه في مواجهة الاستكبار كلّه، لخدمة المستضعفين، ولإثارة الموقف المضادّ للظُلم كلّه لمصلحة العدل كلّه الذي هو القاعدة الإنسانيّة للدينين معا.
خامسا: أن تكون المحبّة، كعنوانٍ روحيّ في المسيحيّة انطلاقا من شعار «الله محبّة»، وأن تكون الرحمة، كعنوانٍ في الإسلام ـ إلى جانب المحبّة ـ انطلاقا من مضمون البسملة، «بسم الله الرحمن الرحيم»، ومن قوله تعالى: «وتواصوا بالمرحمة» (البلد:17)، هما القيمتان الأخلاقيّتان الروحيّتان اللتان لا بدّ من أن تحكما علاقة المسيحيّين بالمسلمين، وبالعكس، ولعلّنا نستوحي ذلك من قول الله في القرآن الكريم: «ولتجدنّ أقربهم مودّة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهبانا وأنّهم لا يستكبرون».
سادسا: إنّ ما تقوم به الإدارة الأمريكيّة في حركتها العدوانيّة ضدّ الشعوب، يمثّل تبشيرا في الخطّ المعاكس، وهو التبشير بعالم الشرّ والقتل والدمار، ومنح الغطاء للظُلم والاحتلال الإسرائيلي الذي يرتكب أبشع المجازر في مهد السيّد المسيح، ومسرى رسول الله محمّد، وهو بذلك يمثّل النقيض الأمثل لكلّ القيم المسيحيّة والإسلاميّة على المستويات الثقافيّة والسياسية والأمنيّة، وتدنيسا لكلّ المقدّسات هنا وهناك؛ الأمر الذي يستدعي وقفة جامعة ضدّ هذا المنطق وهذه السياسة
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 1936 - الإثنين 24 ديسمبر 2007م الموافق 14 ذي الحجة 1428هـ