أضحى الحديث عن الإسلام والتجارة هذه الأيام أمرا يناسب العصر. إلا أن نظرة خاطفة على الإشارات إلى الإسلام والتجارة والاقتصاد والأعمال والنشاطات المصرفية والمنتجات والخدمات المصنّعة خصيصا للمسلمين والمعروضة على الإنترنت تشير إلى حقيقة أن التجارة الإسلامية مزدهرة، بل وأكثر من ذلك، إنها كانت كذلك خلال العقدين الماضيين من دون أن يلحظ ذلك أحد إلا نادرا.
شهد العالم الإسلامي منذ ستينات القرن الماضي نهضة من نوع خاص، لقد شهدت كل دولة ذات غالبية مسلمة على هذا الكوكب أزمة حكم ما بعد الاستعمار، عندما أدركت الاقتصادات المسلمة أنه يتوجب عليها أن تتطور إلى ما وراء نموذج استبدال الاستيراد، الذي كان هو المقياس المتبع خلال الحقبة الاستعمارية.
لذلك تم التخلي عن النموذج التنموي الاستعماري، وبحلول ستينات القرن الماضي أدركت حكومات الكثير من الدول الإسلامية أنه يتوجب عليها التكيف مع متطلبات القطاع التجاري الدولي، إضافة إلى متطلبات المجموعات السكانية الحضرية في وسطها.
كما رافق عملية التغيير الاقتصادي والمؤسسي والهيكلي هذه صعود قوة جديدة قوية وفاعلة هي الإسلام السياسي. أخذ المسلمون من المغرب إلى إندونيسيا بتنظيم أنفسهم سياسيا كمجموعة سكانية جديدة تحت لواء الإسلام. وعلى رغم أن بعض الدول كانت قادرة على التكيف مع هذه الأوضاع السياسية الجديدة، إلا أن دولا أخرى، وخصوصا إيران تحت حكم الشاه، حاولت جهدها لفتح مجالات جديدة للتغيير بينما قامت بكبت المطالب بإصلاحات جذرية في النظام السياسي. إلا أن جهودها باءت بالفشل.
بلغ الإسلام السياسي ذروته في أواخر سبعينات وثمانينات القرن الماضي مع نشوب الثورة الإسلامية في إيران، وعملية انتشار الإسلام التي حصلت في دول مثل الباكستان، والسودان ونيجيريا. وكان من الصعب تجنّب مطالب الناشطين في مجال الإسلام السياسي عبر العالم العربي، نتيجة لشعبيتهم في أوساط الطبقات الشعبية الحضرية في الأجزاء الأكثر تطورا مثل مصر والمغرب وتونس. ولم يكن الوضع مختلفا في الدول الآسيوية الإسلامية حيث امتدت عمليات نشر الإسلام بنشاط في الباكستان وماليزيا وإندونيسيا. وشهدت ثمانينات القرن الماضي على سبيل المثال إعادة هيكلة سريعة للاقتصاد السياسي الماليزي عندما توددت الدولة لأنصار الإسلام السياسي واستوعبتهم في الآلية الحكومية.
واليوم تلج دول مثل ماليزيا وإندونيسيا مجالات جديدة في نواحٍ مثل الأعمال المصرفية والمالية الإسلامية. إضافة إلى ذلك فإن شعبية السلع الاستهلاكية التي تحمل شعار «صنع للمسلمين» عالية جدا. وتكشف زيارة إلى المراكز والأسواق التجارية في الدول الإسلامية اليوم مجموعة كبيرة من البضائع تتراوح بين «الكولا المسلمة» مثل زمزم أو مكة كولا، إلى لباس الجينز المسلم مثل جينز القدس والذي صنع بشكل واضح للذوق المسلم والمتطلبات الإسلامية.
وتعمل ماليزيا الآن على تطوير ما قد يكون أول سيارة مسلمة، تضم بوصلة تشير إلى مكة المكرمة وجيبا خاصا للقرآن الكريم. وفي مجالات مثل التسلية الشعبية والفنون البلاستيكية أصبحت الثقافة الشعبية المسلمة مجالا رئيسيا للأعمال تضم تجمعات ضخمة للشركات مثل (EMI) التي توقع اتفاقيات مع مجموعات غنائية مسلمة كجزء من مجموعة فنانيها.
إلا أنه يجب أن نتذكر أن ما نشهده في العالم الإسلامي ليس ثوريا أو متطرفا. كما يجب في هذا المعرض التأكيد على عدد من النقاط البارزة:
أولا: يجب التصريح مرة بعد مرة أن الإسلام ليس دينا ونظام إيمان معادٍ للتجارة. لا تعيق المعتقدات الأخلاقية للإسلام المرء من الانخراط في التجارة، فالنبي محمد (ص) نفسه جاء من أسرة عملت في التجارة ومجالاتها. الإسلام يدافع عن، بل ويشجع المؤسسات الحرة والملكية الخاصة وتراكم رأس المال.
ثانيا: ما يحصل اليوم في العالم الإسلامي لا يشكل ابتعادا فريدا أو اختراعا لأمر جديد. ما يفعله المسلمون لا يتعدى تخصيص أدوات التجارة ومعاييرها لخدمة الأهداف المجتمعية الخاصة بهم.
ثالثا: يعتبر تطوير قطاع أعمال مسلم أخبارا جيدة لنا جميعا، فهو يشكل وسيلة لتطوير المجتمعات وتوليد وتوزيع ثروة جديدة وكذلك آلية بناء جسور في أوقات الأزمات عندما لا تكون العلاقات بين المسلمين والغرب وردية كما يجب أن تكون. يشهد تطوير منتجات مثل الكولا والجينز والسيارات المسلمة لحقيقة أن المسلمين يستمتعون فعليا بالسلع والخدمات التي أنتجت منذ فترة بعيدة في المجتمع الصناعي الغربي.
لذلك يجب أن ينظر إلى ظهور التجارة المسلمة ليس كعائق وإنما كفتح مجال جديد من الاحتمالات والفرص التجارية لمجتمعات الأعمال لتنضم معا عبر العالم، لكي تستكشف وتطور وتقدم الخدمة لسوق استهلاكي حيوي واعٍ بقدرته وفرصه الاقتصادية. في وقت تقصفنا فيه وسائط الإعلام بصور المجتمعات المضطربة وأوقات النزاع والعنف عبر الثقافات، قد يتوجب على أصحاب الأعمال الابتكاريين في الغرب والعالم الإسلامي أن يكون لهم دور مختلف يلعبونه، ألا وهو بناء جسور ثقافية، وأن يكونوا أصحاب أعمال ابتكاريين يمكنهم المساعدة على إيجاد «رأس المال المجسّر» الحيوي الذي يجمع المجتمعات معا بدلا من تمزيقها.
* متخصص في العلوم السياسية ومؤرخ مقيم في Zentrum Moderner Orient في برلين، وهو كذلك أحد مؤسسي موقع البحوث، والمقال ينشر بالتعاون مع «كومن غراوند»
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 1935 - الأحد 23 ديسمبر 2007م الموافق 13 ذي الحجة 1428هـ