تنزلق البلاد نحو اضطرابات واسعة إثر منع مسيرة إحياء ذكرى الشهداء مساء 17 ديسمبر/ كانون الأوّل برأس رمان في العاصمة المنامة، وما تلاها من مظاهرات واحتجاجات متفرّقة على شارع البديع عبر الدية وجدحفص والسنابس وسقط فيها الشهيد علي جاسم محمد مكي (31 عاما) من سكنة جدحفص.
ما حدث لم يكن مفاجئا إذ أنه على امتداد الأشهرالأخيرة استمرت سياسة الأبواب الموصدة من قبل السلطة تجاه أي محاولة لفتح حوار حول القضايا الملتهبة والمستعصية، وسياسة القبضة الحديد في مواجهة الاحتجاجات، والاعتقالات التعسفية والإجراءات الردعية، وجاء منع المسيرة في ذكرى الشهداء مساء الإثنين 17 ديسمبر، وتحوّلها إلى صدامات عنيفة ما أدّى إلى تسخين الوضع لينفجر مساء الخميس 20 ديسمبر وتحوّل العيد إلى بداية فاجعة تتوالى فصولها بسرعة إلى هوة سحيقة ما لم يتم تدارك الأمر.
لن نتناول القضايا العالقة كافة منذ سنوات والتي دخلت نفقا عميقا لا قرار له، لكننا سنتناول مشكلة واحدة فحسب كان يمكن حلحلتها ومعالجتها بطريقة مختلفة عمّا اعتدنا عليه.
الحقيقة والإنصاف والمصالحة
لأوّل مرّة تتفق إحدى عشرة جمعية سياسية وحقوقية على تشكيل تحالف من أجل إظهارحقيقة ما جرى من انتهاكات لحقوق المواطنين جماعات وأفرادا منذ الاستقلال في 1971 حتى إلغاء العمل بقانون أمن الدولة في 20 فبراير/ شباط 2001، وعلى امتداد أشهر جرى التحضير لورشة العمل والمؤتمرالعام الذي انعقد في 26 يونيو/ حزيران 2007 بمناسبة اليوم العالمي لمناهضة التعذيب وفي أجواء من عدم اليقين بموقف الدولة تجاه المؤتمر جرى الاتصال بالديوان الملكي. بعد ذلك جرى استدعاء إدارة الجمعية البحرينية لحقوق الإنسان إلى جانب إدارة الجمعية البحرينية لمراقبة حقوق الإنسان، لاجتماع مع جلالة الملك.
وفي هذا اللقاء أوضحت الجمعية البحرينية لحقوق الإنسان، وهي منسّق التحالف من أجل الحقيقة والإنصاف والمصالحة، بكلّ جلاء أنّ قضية كشف الحقيقة والإنصاف قضية وطنية وضرورة ملحة لن تتم من دونها مصالحة وطنية حقيقية. لكن كلّ ما خرج به الاجتماع هو الموافقة على عقد المؤتمر وأنّ الحكومة ستتمثل بوفد رسمي.
وبدلا من أنْ يكون المؤتمر بداية لحوارجدي بين الحكومة وممثلي المجتمع المدني وخصوصا ممثلي الضحايا، فقد جاءت وزيرة التنمية الاجتماعية فاطمة البلوشي لتؤكد موقف الحكومة بأنّ الدولة أصدرت عفوا عاما وكفى وإنها اتخذت من الإجراءات بحق الضحايا ما يتوجّب عليها. أمّا المفاجأة فهي أنّ نائب رئيس مجلس النواب صلاح علي كان متشددا أكثر من الحكومة في إنكار حق الضحايا في الإنصاف. وبعد إلقاء المسئولينِ كلمتيهما انسحبا من المؤتمر دون أن تكلف الحكومة أيا من ممثليها حتى للاستماع إلى مداولات المؤتمر.
منذ ذلك الحين حتى انفجار المظاهرات الأخيرة فإنّ الآلاف من الضحايا لم يروا بارقة أمل ولم يسمعوا ما يشجعهم بأن الحكومة مهتمة بأمرهم.
لذا فإنّ الإحباط والغضب يتعمقانِ في نفوس هؤلاء الضحايا وعائلاتهم خصوصا أنّ الأوضاع المعيشية والاقتصادية للمئات منهم سيئة جدا.
ومقابل ذلك فقد جاءت مبادرة رئيس مجلس النواب خليفة الظهراني بتقديم اقتراح برغبة موجّه إلى الحكومة بالتعويض على المتضررينَ من أعمال العنف خلال التسعينيات لتنكأ الجراح، وقد سبق للنائب السلفي جاسم السعيدى أنْ شكل جمعية الدفاع عن ضحايا العنف حظيت برعاية ودعم رسمي، ودفع بها على عجل لتناوئ الجمعيات الحقوقية البحرينية أثناء مناقشة تقرير مملكة البحرين أمام لجنة مناهضة التعذيب في جنيف في صيف 2005.
وقد واجه اقتراح رئيس المجلس باستنكارشديد في مجلس النواب من قبل كتلة الوفاق وفي الشارع، ما حدا بالكتل الأخرى إلى طيه. كان يمكن بدلا من ذلك الاتفاق بين الكتل مجتمعة أن تتقدّم بمشروع قانون لكشف الحقيقة وإنصاف الضحايا ولكن محاولة كتلة الوفاق في هذا الصدد لم تلقَ الاستجابة من الكتل الأخرى، خصوصا ونحن نعرف المواقف المسبقة للكتلتين المواليتين.
مرمطة العائدين
يعتبرالعائدون إلى الوطن من مختلف المنافي إحدى الفئات المتضررة من مرحلة أمن الدولة. وبموازاة تحرك لجنة الشهداء وضحايا التعذيب، فقد قادت لجنة العائدين تحرك المئات من العائدين من أجل إنصافهم بطريقة سلمية هادئة وحرصت على التواصل مع المسئولين في الحكومة ومجلس النواب والشورى ولقد انتقل ملف العائدين بين مختلف مؤسسات الدولة، الديوان الملكي، ديوان رئيس مجلس الوزراء، الوزارات المعنية كالإسكان والعمل والتنمية الاجتماعية. شكلت لجان وزارية وعقدت اجتماعات مطوّلة، وكتبت مذكرات بل وصدر قرار من مجلس الوزراء بتاريخ 12 يناير/ كانون الثاني 2005 يؤكد العزم على حل مشكلتهم.
وصوّت مجلس النواب السابق بالإجماع في آخر جلسة له بتبني مطالب العائدينَ وحملها وفد برئاسة نائب رئيس المجلس عبدالهادي مرهون إلى الديوان الملكي.
وأخيرا استقرالملف في وزارة التنمية الاجتماعية التي كُلِّفت من الديوان الملكي بتقديم مساعدات للعائدينَ وليس حل مشاكلهم جذريا أوإنصافهم كما يستحقون.
نعم، لقد قدّمت مساعدات لأشخاص لكن ذلك لا يحل مشاكلهم الأساسية في العمل والسكن والضمان الاجتماعي. من هنا فقد اعترى العائدون اليأس والإحباط وانضموا إلى الضحايا الآخرين وأضحت قضيتهم قضية واحدة.
وماذا بعد؟
في 3 ديسمبر 2007 نشرت جميع الصحف بتوجيه رسمي حديث سمو رئيس الوزراء إلى صحيفة «السياسة» الكويتية المعروفة بسلبيتها تجاه نضالات شعب البحرين منذ السبعينيات. وفي هذا الحديث أكّد رئيس الوزراء على صحة نهج الحكم خلال مرحلة أمن الدولة وفهم من الحوار اشارات سلبية تجاه نضالات الشعب. وقد أثار هذا الموقف الرسمي احتجاجات واسعة من قبل القوى والشخصيات الوطنية.
في جمعية «وعد» عقدت مساء الأربعاء 12 ديسمبر الجاري ندوة لقوى المعارضة أفصحت فيها بكلّ جلاء عن موقفها الرافض لأي توجّهات سلبية وحذرت من خطورتها ،وفي مساء الجمعة 14 ديسمبر الجاري عقد المؤتمر الوطني بدعوة من التحالف الوطني للحقيقة والإنصاف والمصالحة في سترة، وحضره ما يقارب ألفين من المواطنين، حيث جرى التعبير بجلاء على الإصرار بالسير بالجهد الوطني لكشف الحقيقة عمّا جرى لهذا الشعب منذ الاستقلال، والحق في إنصاف الضحايا.
هذه الإشارات الواضحة لم يعرها الحكم أي اهتمام ولم يُكلّف أحدا من المسئولين بمحاورة لا القيادات السياسية ولا قيادات التحالف ومضت الاستعدادات للاحتفال بالعيد الوطني وكأنّ شيئا لم يكن وكأنّ البلاد ليست في أزمة.
هناك إذا فجوة واسعة تفصل الحكم عن غالبية الشعب، وقد حفرت السلطة بتصرفاتها أخيرا خندقا آخر يفصلها عن السواد الأعظم من المواطنين.
ربما يطرب بعض المسئولين لسماع الأغاني والقصائد التي ينتفع منها بعض النوعيات من الناس، لكنّهم يرفضون أنْ يستمعوا لآلام هذا الشعب، وهذا أدى الى انزلاق خطير بسبب استخدام العنف المفرط لقمع مظاهرات احتجاجية فرعية وهكذا تحوّلت مناطق مثل الديه، والسنابس وجدحفص إلى ساحة معركة وانهمرت قنابل الغاز والرصاص المطاطي والمتفجر؛ ليسقط شهيد جديد ولتبدأ دوره جديدة من العنف الذي كان ومازال بالامكان تحاشيه فيما لو اقتنع المسئولون بضرورة الاستماع لوجهات النظر البناءة والتي لاتكلف الدولة شيئا مقارنة لما نراه من بذخ على ما لايستحق. انه منزلق خطير نأمل من الجميع تجاوزه عبر استيعاب الدروس، وعبر الاستماع والإنصاف والمصالحة.
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 1934 - السبت 22 ديسمبر 2007م الموافق 12 ذي الحجة 1428هـ