اليوم يفترض أن تعقد الجلسة العاشرة لتعديل الدستور وانتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية. والتوقعات ترجح ألا تعقد الجلسة وأن يتم تمديد فترة «الفراغ الرئاسي».
مسرحية الانتخاب التي تدحرجت فصولها من الإصرار على «نصاب الثلثين» إلى الأبد، إلى التوافق على رئيس وفاقي إلى التفاهم على «سلة شروط سياسية» قبل التوجه إلى قاعة البرلمان بدأت تفتح الباب على مسرح مكشوف على مختلف الاحتمالات.
المسرح اللبناني تحول منذ العام 2004 إلى ساحة مفتوحة على التدويل والتجاذبات الإقليمية والاستقطابات الأهلية. وجاء العدوان الأميركي - الإسرائيلي في صيف العام 2006 ليدفع التعارضات المحلية إلى حالات من الاستنفار العصبي نتيجة الضربات الجوية التي تلقتها الدولة والمقاومة معا على امتداد 34 يوما.
العدوان أضعف الدولة (الضعيفة والمشلولة أصلا). وحين تنشل الدولة وتتعطل مؤسساتها تقوى الهيئات البديلة وتأخذ مكانها في لعب الدور المؤثر في تقرير أو تحديد السياسات العامة الداخلية والخارجية.
هذه النتيجة المنطقية جدا تأخرت قوى «14 آذار» في التقاط إشاراتها السياسية ولم تستوعب معنى العدوان والطرف الذي شجع عليه وأعطى الضوء الأخضر لحكومة إيهود أولمرت بأن تستمر به فترة طويلة.
قرار تقطيع أوصال لبنان الذي نفذته تل أبيب في صيف 2006 جاء بناء على توصيات أميركية وتمويل من إدارة واشنطن وبتشجيع وتسليح من رأس هرم الدولة ومؤسساتها الحربية والاستراتيجية. قرار تحطيم الدولة في لبنان بغية إضعافها وجرجرتها إلى مشكلات محلية إضافية بقصد إرهاق اقتصادها وزيادة حجم قروضها وديونها وحاجاتها للمساعدات تتحمل مسئوليته الإدارة الأميركية. وهذا الأمر أدركته قوى «14 آذار» متأخرة وربما بعد فوات الأوان. فهذه القوى لم تطرح آنذاك ذاك السؤال. من يحب لبنان ويدافع عن نموذجه ويشجع أهله على تطوير الديمقراطية فيه لا يعطي الإشارة الخضراء لتحطيم مؤسساته وتقطيع أوصاله وإضعاف دولته وتقوية الطوائف والمذاهب والمناطق على نظامه الدستوري والاختياري والتداولي والتوافقي؟
الآن كما يبدو بدأت قوى «14 آذار» تفكر بالسؤال وأخذت تبحث عن جواب يعطي صورة عن تلك التحولات التي حصلت واحتمال دخول المنطقة في متغيرات تخلط الأوراق وتعيد رسم خريطة طريق للتحالفات الإقليمية تعتمد جدول أولويات يرتب المصالح وفق تلاوين متدرجة من إيران إلى غزة.
هذه القراءة المتأخرة لعدوان الصيف الماضي ربما تكون ساهمت إلى حد معين في ترسيم تراجعات أملت على قوى «14 آذار» القبول بتعديل الدستور وانتخاب جنرال على رأس الدولة. وهذا التراجع المدروس والمحسوب تحت سقف المعطيات الدولية والإقليمية خلط بنسبة معينة الأوراق الداخلية وأعاد إنتاج تسوية محتملة تحتاج إلى وقت للتبلور حتى تكون القوى المختلفة أدركت مجتمعة حدود التنازلات الدولية والمكاسب الإقليمية.
المنطقة كما يلاحظ من الإشارات المتضاربة دخلت الآن طور «التفاوض السياسي» بعد أن تراجعت احتمالات الحرب (ضربة جوية لإيران) وتعطلت إمكانات تطوير العقوبات (ضربة دبلوماسية). وهذا التحول في المعطيات يفسر ذاك التأخر في انتخاب رئيس للجمهورية. فهذا البلد الصغير يمثل في النهاية مرآة المنطقة لأنه يعكس تلك التوازنات التي استقرت عليها المعادلات الدولية والإقليمية في دائرة «الشرق الأوسط الصغير».
التفاوض السياسي يعني تسوية. والتسوية تتطلب ذاك الوقت لإعادة إنتاج صفقة في بلد ساحته مكشوفة ومفتوحة على احتمالات مختلفة. والصفقة في المعنى التجاري تقوم على معادلة بسيطة وهي البيع والشراء. فهناك طرف يبيع وآخر يشتري. أي أن هناك بضاعة (سلعة) معروضة للبيع وهناك طرف مستعد للشراء ودفع الثمن.
التفاوض الآن على السعر وهذا الأمر يتطلب بعض الوقت للاتفاق على الثمن وقيمة البضاعة المعروضة ووزنها ونوعيتها ومدى صلاحيتها. وكل هذا يتطلب المزيد من الوقت للتفاهم النهائي على الصفقة. وربما يكون التداول في القيمة والسعر هو السبب الذي يفسر تأخر تعديل الدستور وانتخاب رئيس.
للصبر حدود
قوى «14 آذار» بدأت قبل شهر تقريبا تتحدث عن صفقة أميركية - إيرانية في العراق والخليج، وصفقة أميركية - سورية في فلسطين ولبنان. وهذا الاستنتاج المتأخر يحتاج بدوره إلى تدقيق لفهم عناصره وتفصيلاته. فالشيطان يكمن في التفاصيل. المؤشرات تدل على وجود تقاربات وتقاطعات دولية وإقليمية ربما تنتج تفاهمات تعتمد قاعدة البيع والشراء. إلا أن مجموع تلك الإشارات لا يزال يعطي صورة غامضة عن احتمال وجود صفقة كبيرة تنجز دفعة واحدة لتشمل مجموعة ملفات ساخنة من إيران إلى فلسطين. ولكن الصورة غير واضحة حتى الآن الأمر الذي يرجح أن الصفقة لاتزال قيد البحث والتداول (التفاوض السياسي) وتحتاج إلى مزيد من الوقت لوضع اللمسات الأخيرة عليها.
هناك إذا عقبات تعترض الإعلان النهائي عن صفقة كبرى. وهذا ما يمكن ملاحظته من تصريح الرئيس الأميركي جورج بوش عن «نفاد صبره» من الرئيس السوري بشار الأسد. وبوش الذي يستعد لزيارة المنطقة بين 8 و16 يناير/ كانون الثاني المقبل نجح أخيرا في انتزاع موافقة الكونغرس على موازنة الدفاع وتغطية نصف نفقات الاحتلال في أفغانستان والعراق من دون شروط تكبل حركته وخياراته. وبوش الذي دخل في مفاوضات سرية وعلنية مع إيران وسورية قبل العدوان على لبنان وخلاله وبعده طور اتصالاته ولقاءاته مع الطرفين بناء على توصيات تقرير بيكر - هاملتون التي نصحته بالتفاهم مع طهران ودمشق أذا أراد معالجة ملفات المنطقة الساخنة.
كلام بوش عن «نفاد صبره» تناول ثلاثة ملفات دفعة واحدة وأعاد ربطها ببعضها بعضا. فهو كما يبدو منزعج جدا من ارتفاع سعر البضاعة وأنه يريد الضغط أو يراهن على الوقت لخفض الثمن المطلوب في المقابل. وكلام الرئيس الأميركي عن دمشق وتجديد اتهامه للنظام بدعم تهريب المسلحين إلى العراق، وتهريب السلاح إلى حزب الله في لبنان، وتغطية أعمال حركة «حماس» في فلسطين يؤشر بوضوح إلى مصدر الانزعاج (نفاد الصبر) والمناطق المطروحة على جدول أعمال فترة «التفاوض السياسي».
إعادة قراءة كلام بوش ثانية وثالثة لفهم السطور وما بين السطور تعطي صورة غامضة عن خلاف ما لا يزال يدور بشأن الصفقة. فالكلام يعكس ذاك الانزعاج من ارتفاع سعر البضاعة وعدم جاهزية الولايات المتحدة لدفع ثمن أعلى بكثير من تقديرات السوق.
هناك إذا مشكلة في الكلفة السياسية وعدم استعداد أميركا الدخول في صفقة نهائية تعطي إيران أكثر مما تستحق في العراق وتعطي سورية أكثر مما تستحق في لبنان وفلسطين. وهذه المشكلة في البيع والشراء تقدم فكرة مصغرة عن طبيعة المداولات التي لاتزال جارية في إطار فترة «التفاوض السياسي» على الملفات الثلاثة. «نفاد صبر» بوش يطلق إشارات متضاربة فهو يؤكد أن التفاوض السياسي حاصل أو هو في طريقة إلى الظهور في حلة جديدة أو أن هناك عقبات لاتزال تعترضه وبالتالي للصبر حدود. وانتخابات الرئاسة في لبنان التي تعطلت تسع مرات ويرجح أن تتأجل للمرة العاشرة تختصر الكثير من المعطيات التي دخلت على خط التفاوض الأميركي - السوري وذاك التفاوض الآخر الذي يتقدم ويتراجع على خط اللقاءات «الفنية» و «التقنية» بين طهران وواشنطن في بغداد
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1933 - الجمعة 21 ديسمبر 2007م الموافق 11 ذي الحجة 1428هـ