عندما سئل الفنان التونسي لطفي بوشناق في برنامج «تاراتاتا» الذي يبثه تلفزيون دبي عمّا إذا كان يشعر بحزن عن تخليه عن حلمه بامتهان الطب، أجاب بأنّ الطب أقل خطورة على المجتمعات، ذلك أنّ الطبيب عندما يفشل في إجراء عملية جراحية هو يتسبب في إنهاء حياة شخص واحد بينما يحطم الفنان الفاشل أجيالا ومجتمعات.
وفي الواقع لم يحد لطفي بوشناق عن الحقيقة، فموجات الأغاني التي تتسابق الكثير من القنوات التلفزيونية الفضائية على بثها تعتبر، بالاعتماد على ما جاء على لسان الفنان لطفي بوشناق «أغاني تدميرية» تستهدف فقط الغرائزالحيوانية في الإنسان من دون غرائزه الإنسانية.
ولأني اعتبر الموضوع على درجة من الخطورة لا يستهان بها، إيمانا منّي بدور الفنون في صقل الشخصيات وتربيتها، فاني لن أتحدّث عن الصورة الذي تظهر بها ويظهر بها الفنانات والفنانون على شاشات التلفزيون ولن أتحدّث عن التصرّفات الإغرائية التي يتعمدونها في سعي إلى تصدر صفحات المجلات، حتى ولو كان ضمن تصنيف يجلب الخزي لا الافتخار؛ لأن الحديث في هذه الموضوعات شائك وقد يحيد بي عن الموضوع الرئيسي. حديثي سيكون من زاوية الكلمة التي يتغنى بها الكثير من الفنانين اليوم، الكلمة التي اعتبرت في إحدى الحقب التاريخية أقوى من السلاح.
ولأني من المؤمنات جدا بحرية التعبير أجدني في مأزق حقيقي، إذ كيف لي أنْ انتقد الآخرين في ما يقولونه؟
على أني في الآن نفسه اعتقد أنّ حرية التعبير هذه لا تحمل أبعادا أو أهدافا ما، هي فقط استغلال فاحش لهامش من الحرية المتاحة، وللأسف العديد من بلدان العالم لم يعد أمامها سوى التعبير من خلال الفنون، والسبب معروف، ذلك أنّ الحكومات تعتبر الفنون على اختلاف أنواعها اعجز من أن تأثر في الرأي العام، خصوصا بعد أن غلب الطابع التجاري على هذا القطاع، وتحكمت فيه رؤوس الأموال والاستثمارات والرغبة في الربح السريع.
المثير في الموضوع هو أن نظرية «آدام سميث» الاقتصادية «دعه يعمل، دعه يمر» تطبق بشدة في مجال الأغنية العربية، فسمح بذلك لكل الكلمات مهما تكن درجة انحطاطها الأخلاقي ومهما كانت تافهة المعاني بالمرور؛ لتصبح أغاني يتداولها الصغير قبل الكبير. المعيار الوحيد الذي تعتمده بعض القنوات التلفزية التي هي في الوقت ذاته شركات إنتاج، هو مدى نجاحها في استفزاز الميولات الحيوانية لدى المشاهد.
يعلل الانهزاميون الوضع المتردي الذي آلت إليه الأغنية العربية الملتزمة، ولا أعني بذلك الأغاني المتشددة بل أعني بها فقط الأغنية الجميلة ذات المعاني الراقية مهما يكن موضوعها، تلك الأغاني التي تحمل في كلماتها صورا شعرية جميلة، بأن الجمهور «عايز كده» وعلى احترامي لآراء هؤلاء وتقديري إلا أني لا أنفك أتذكر أن الجماهير ولئن ضحكت أو حتى رقصت على أغاني من هذه النوعية إلا أنها في ذات الوقت لا تصنفها إلا ضمن خانة الأغنيات «التافهة»، بل حتى أنّ الكثير ممن يبدون مستمتعين بهذه التقليعات الغريبة في الأغاني يمنعون أبناءهم من مشاهدتها لأسباب تربوية!
أتذكر دائما كلما سمعت عبارة «الجمهور عايز كده» أنّ عبدالحليم حافظ لم يؤمن بهذه المقولة، ولو كان آمن بها لكنا حرمنا من كم هائل من الأغاني لا يختلف اثنان في عالمنا العربي على قيمتها الفنية الراقية. نفس هذا الجمهور الذي رفض العندليب الأسمر ورماه بما كان في يده، نفس هذا الجمهور بكى هذا المطرب عند وفاته، وانتحر حزنا على فقدانه!
ما يثير السخرية في الموضوع هو أنّ الجمهور آنذاك رفض عبدالحليم واتهمه بالسوقية؛ لأنه اعتاد الاستماع إلى أم كلثوم، في المقابل اليوم لم أسمع عن أحد انتقد أغنية العنب أو الحنطور، بل على العكس تماما البعض صار يروج لشعبان عبدالرحيم على انه فنان يمس هموم الشعوب بأغانيه فقط لأنه قال (أنا بأكره «إسرائيل»)!
لا أريد أن أكون تشاؤمية فالظلمة الحالكة لا تخفي بصيص النور، والرمي بالأغنية العربية كلها في سلة واحدة إجحاف في حق مبدعين كثر،على انه لا تخلو أية مزرعة غناء من أعشاب طفيلية، قد لا تؤذي لكنها تعيق النمو، وقد يؤدّي التغاضي عنها وعدم اقتلاعها من جذورها إلى تكاثرها وإضرارها بجودة ثمارهذه المزرعة، وحديثنا قياس
العدد 1933 - الجمعة 21 ديسمبر 2007م الموافق 11 ذي الحجة 1428هـ