اعترافات الرئيس الأميركي جورج بوش قبل أسابيع من مغادرته البيت الأبيض جاءت متأخرة لكنها على الأقل تعطي فكرة عن خلفيات القرارات التي تتخذها أحيانا الإدارة وربما تساعد الرئيس المنتخب على تجنب الوقوع بها. فالرئيس الحالي الذي أصبح يصرف الأعمال اعترف بالأخطاء والثغرات والنواقص والإخفاقات التي ارتكبتها إدارته بسبب تسرعها في اتخاذ قرارات قبل أن تتأكد من المعلومات.
بوش اتهم مواربة المخابرات الأميركية وحملها مسئولية تزويده بمعلومات تبين لاحقا أنها غير دقيقة ما أدى إلى توريط الإدارة في مغامرات كان بالإمكان تجنبها. بوش لم يحدد الجهة بالاسم ولم يوضح العنوان واكتفى بالإشارة العامة إلى مسئولية أجهزة اعتمدت على معلومات غير صحيحة استقتها من مصادر غير أمينة وقدمتها إلى إدارته وكأنها أدلة دامغة يمكن البناء عليها وتأسيس استراتيجية كبيرة على مضمونها.
الأمر نفسه كرره وزير الخارجية السابق كولن باول الذي استقال من الإدارة بعد أن تورط في معلومات كاذبة عن أسلحة الدمار الشامل والمصانع الكيماوية المتنقلة زودته بها المخابرات الأميركية وأقدم على طرحها بصفتها حقائق نهائية في مداخلة ألقاها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. باول كان أوضح من بوش حين حدد الجهة التي اختلقت الأكاذيب معتبرا أن خطابه الذي ألقاه أمام سفراء الأمم المتحدة أسوأ لحظة في حياته السياسية لأنه انفضح وظهر غبيّا ويتقبل كل ما يقال له بسذاجة. الأسوأ من ذلك أن تلك المعلومات الخاطئة التي أوردها باول في خطبته تحولت إلى مستندات اعتمدتها الأمم المتحدة في سجلاتها ما أعطى الذريعة لإدارة بوش بشن تلك الحرب العدوانية على العراق.
الآن أعاد الرئيس بوش تذكير العالم بما قاله باول سابقا. باول قال في مذكراته عن تجربته إنه خدع بالأجهزة وصدقها واكتشف أنه ضحية واستخدمته تلك «السلطة الخفية» لتمرير خططها الحربية من دون دراية منه. بوش لم يذهب إلى الحد الأقصى في اعترافاته المتأخرة لكنه اكتفى بتقديم مادة مثيرة للجدل ويمكن أن تطرح أسئلة بشأن دور «الأجهزة الخفية» في إثارة أزمات عالمية وثم التذرع بها لتنفيذ خطة مرسومة. وهذه النقطة بحد ذاتها مخيفة للغاية لأنها تصدر عن أقوى دولة في العالم حتى الآن تمتلك إمكانات تقنية وقدرات عسكرية وشبكة معلومات يفترض أن تكون دقيقة ولا تقترف أخطاء شنيعة تودي بحياة مليون عراقي وتشرد الملايين وتقوض دولة وتفكك علاقات أهلية وتشرذم بلاد الرافدين إلى ثلاث دويلات جاهزة للاقتتال والتصارع على النفوذ والغنيمة.
ما قاله بوش في اعترافاته المتواضعة والغامضة يمكن أن يعطي ذخيرة حية للرئيس المنتخب ويساعد إدارة باراك أوباما على عدم السقوط في معلومات «تفبركها» الأجهزة لتبرير موقعها وتغطية نفقاتها المالية وتحسين شروط وظائفها الداخلية والخارجية. ومسألة توريط الأجهزة الخفية للإدارات الأميركية في سياسات خاطئة ليست جديدة، فهي دائما تظهر على شاشات الدولة وتنفضح في السجلات والأراشيف ولكن بعد فوات الأوان وحصول الكارثة.
إدارة أوباما لابد أن تستفيد من اعترافات بوش المتأخرة ومذكرات باول وتصريحاته اللاحقة التي كشف فيها خيوط مؤامرة مدبرة ومدروسة جرى تمريرها من خلال قنوات رسمية حتى تعتمد قاعدة انطلاق لتأسيس استراتيجية الهجوم الدولي على «الإرهاب». وهذه الاستراتيجية لاتزال قائمة ومعتمدة رسميّا ويرجح أن تتورط بها إدارة أوباما إذا لم تسارع إلى وقفها وإعادة النظر بها من مختلف زواياها وجوانبها.
استراتيجية بوش خاطئة أساسا لأنها اعتمدت على معلومات ملغومة بالأكاذيب والافتراءات وكذلك لأنها استجابت لرغبات صقور «تيار المحافظين الجدد» وطموحات قادته بتغيير العالم أو على الأقل السيطرة على مواقع القوة التي تسمح بالتغيير والتفرد. والفشل الذي أصاب الاستراتيجية الأميركية وارتد عليها في نهاية الأمر تأسس بناء على الخطأ ونزعة الغرور والاستهتار بالعالم وعدم احترام توازن المصالح. فالفشل ليس سببه المعلومات الخاطئة فقط وإنما أيضا السياسة الخاطئة التي شجعت الأجهزة على الكذب وتمرير تقارير مختلقة للإدارة حتى تكسب ثقتها وتورطها في موازنات مالية أدت إلى تفريغ الخزانة من الموارد.
التهرب من المسئولية
بوش في اعترافاته الأخيرة يريد التهرب من المسئولية المباشرة من خلال إثارة علامات استفهام بشأن دور مشبوه قامت به «الأجهزة الخفية». هذا الجانب صحيح لكنه يوضح نصف الحقيقة لأن النصف الآخر تتحمل مسئوليته الإدارة الأميركية مباشرة. فالبيت الأبيض في عهد بوش تحول إلى مرتع للمتطرفين تحكمت بآلياته مجموعة كارهة للعرب وحاقدة على المسلمين. وهذا الصنف من البشر حين يعتمد عليه الرئيس لترسيم سياساته لا يتردد في نسج الأوهام واختراع الأزمات واختلاق الأدلة وتأليف القصص حتى يقع في مصيدتها وينجرف نحو تحقيق أجندتها الخفية.
هناك الكثير من الأخطاء ارتكبتها إدارة بوش خلال السنوات الثماني الماضية وهي في مجموعها تستند إلى سياسات تقليدية وموروثة عن أجهزة جمهورية وديمقراطية قيض لها تسلم مسئوليات رفيعة المستوى في البيت الأبيض خلال العقود الخمسة الأخيرة. ومثل هذه الأخطاء الاستراتيجية لا يمكن إعادتها إلى نقص في المعلومات أو تقارير مزورة صاغتها «أجهزة خفية». الموقف من الموضوع الفلسطيني ليس بحاجة إلى معلومات تطبخها أجهزة المخابرات باعتبار أن المسألة قديمة ومعروفة ومفهومة وهناك قرارات دولية واضحة صادرة بشأنها. مع ذلك اختار الرئيس بوش أسوأ الطرق في معالجة أبسط نقاطها. كراهية العرب لا تحتاج إلى تقارير مخابرات تصدر عن جهاز خفي وإنما هي مسألة أيديولوجية موروثة ومعطوفة على أحقاد ضد الإسلام شجع عليها «تيار المحافظين الجدد».
مسألة خداع الأجهزة وكذبها على الرئيس صحيحة ولافتة لكنها ليست كافية لتبرير سلوك واشنطن واستخفافها بالعقول العربية واستغفال قوى دولية كبرى والالتفاف حول مصالحها بذريعة وجود خطر رهيب يهدد «الأمن القومي» الأميركي. فالمسألة أوسع من دائرة أكاذيب أجهزة ومعلومات مغلوطة فهي أولا تأسست على سياسة منهجية كانت تلهث للبحث عن عدو بديل عن الشيوعية تتذرع به واشنطن لتبرير نفقات الدفاع والأمن. وثانيا حاولت تلبية مصالح كارتيلات مؤسسات التصنيع الحربي وشركات الطاقة وأسواق المال. وثالثا جاءت لتتكيف مع ايديولوجية متطرفة تبالغ في استخدام القوة بذريعة أنها تختصر الزمن للوصول إلى التغيير المبرمج. رابعا استجابت لمنطق أن العرب قوة ضعيفة يمكن كسرها بسهولة وتطويعها بأقل الخسائر ومن دون كلفة بشرية ومادية. وأخيرا توصل بوش إلى قناعات خرافية بأنه شخصيّا هو «الرجل المختار» ويتلقى أوامره من سلطة عليا.
هناك الكثير من العوامل شجعت بوش على تبني استراتيجية التقويض ضد العالم العربي - الإسلامي وهي في مجموعها تتجاوز هفوة المعلومات التي سربتها أجهزة المخابرات عن عمد لتوريط الإدارة في حروب مفتوحة ضد المسلمين والعرب. فالذريعة صحيحة لكنها تحتاج إلى تصويب زواياها من كل الجهات حتى لا يقع أوباما في الأخطاء نفسها وتنجرف إدارته إلى سياسة تعيد إنتاج استراتيجية الحروب والتقويض بناء على معلومات كاذبة تضخها الأجهزة مستفيدة من انفتاح قنوات الإدارة على مصادرها. فالأجهزة الخفية تخدع دائما لكنها أحيانا ترفع من درجة أكاذيبها حين تتعامل مع إدارة تشجعها على المضي في هذا السلوك. وفي هذا المعنى تكون الأجهزة ساهمت في توريط بوش لأن بوش أراد منها توريطه.
اعترافات الرئيس الذاهب مهما تكن خجولة تعتبر مفيدة ليس لتصحيح ما مضى بل لتوضيح الصورة أمام الرئيس القادم. فأوباما يمكن أن يمنع الأجهزة من تضليله إذا أراد التغيير ويمكنه أيضا أن يسمح لها بتضليله إذا أراد اتباع السياسة الخارجية السابقة وتحديدا في فلسطين والعراق وافغانستان.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2280 - الثلثاء 02 ديسمبر 2008م الموافق 03 ذي الحجة 1429هـ