إنّ هذا العيد الذي أراد الله فيه للحجاج وغيرهم أن يقدموا الذبائح لإطعام الفقراء والمساكين، ومحطة لتقوية عنصر التقوى بالتقرب إلى الله، تحوّل لدى بعض الذين يستحلّون دماء المسلمين والمسالمين إلى فرصة لذبح الناس وارتكاب المجازر في الآمنين، من خلال العصبيات التكفيرية والذهنيات المتخلفة، حتى أصبح أكثر من بلد إسلامي لا يأمن فيه الإنسان على نفسه ممن يفترض أن يعيشوا الأخوّة الإيمانية مع سائر المسلمين والروح الإسلامية المنفتحة على الآخر، وأن يتحركوا بهدي من روحية هذا العيد الذي انطلق ليكون عيد وحدة يلبي فيه المؤمنون نداء ربهم، ليعتصموا بحبله جميعا ولا يتفرقوا، والذي نسأل الله فيه أن يلهم القائمين على الشئون الشرعية أن يوحّدوا رؤيتهم الاجتهادية، سواء لجهة الشروط الشرعية أو لجهة الاعتماد على الحساب الدقيق، من أجل توحيد بدايات الشهور في كلّ العالم الإسلامي، ولاسيما أن المسألة ليست مسألة اجتماعية بحتة، وإنما مسألة تتصل بالجانب الشرعي لتكليف الناس.
ومن جانب آخر، فإن العالم الإسلامي الذي يبلغ عدد سكانه المليار والنصف، لايزال في موقع الضعف والتمزّق أمام المستكبرين الذين يسيطرون على مقدراته السياسية من خلال سعي الحكومات المهيمنة على بلاد المسلمين الخاضعة للاستكبار لإبقاء الأوضاع الإسلامية في دائرة الخضوع والسيطرة، بعيدا من مواقع القوة في حركتها من أجل تقرير مصيرها في قضاياها الحيوية... أما من الناحية الاقتصادية، فإن كل الموارد التي تملكها الأمة من ثروات طبيعية في داخل الأرض وفي خارجها، ومن مواقع استراتيجية مهمة، باتت تحت سيطرة القوى الاستكبارية، أما ثروات الأمة النقدية فتختزنها مصارف الدول المستكبرة من أجل استثماراتها التي قد تستغلها الصهيونية من جهة، والدول الكبرى من جهة أخرى...
العالم الإسلامي: ضعف داخلي
وقهر خارجي
إن ذلك كله يجعل العالم الإسلامي الذي تعاني شعوبه الفقر والحرمان مضطرا إلى الاقتراض من المستكبرين بفوائد مرتفعة وشروط مدمّرة والتزامات ثقافية وتربوية واجتماعية وسياسية، الأمر الذي يجعل هذه الشعوب لا تستفيد من الدول التي تسمي نفسها دولا إسلامية، بل إنها، أي هذه الدول، تمنح قوتها الاقتصادية للمستكبرين.
وتتضخم المشكلة الإسلامية في الاحتلال الذي يسيطر على شعوبها ليستغل كل أوضاعها السياسية والاقتصادية والأمنية، وينشر الفوضى في كل مواقعها ويستخدم مقدراتها لتنفيذ مشروعاته التي تنتج الأزمات الكبرى في كل منطقة من مناطقها، ويستغل احتلالها ليكون جسرا يعبر عليه إلى مصالحه الاستراتيجية.
هذا إلى جانب الضحايا التي تتساقط في كل يوم بالعشرات أو المئات في شكل مباشر أو غير مباشر. وهكذا تتطور المسألة لتخلق الفتن والحروب والاهتزازات الأمنية للسيطرة على منابع النفط أو المواقع الاستراتيجية في هذا البلد أو ذاك، الأمر الذي يجعلها تسقط تحت تأثير الفوضى ومقتل الضحايا الأبرياء من دون معنى.
ومن جانب آخر، فإن الاستكبار والصهيونية المتحالفة معه، يعملان على استغلال التنوعات المذهبية والطائفية والعرقية في عالمنا الإسلامي والعربي، وذلك بهدف خلق الفتن التي تربك الواقع كله، ما قد يترك تأثيره على العلاقات الإسلامية - الإسلامية، أو الدينية أو القومية، بما يؤدي إلى دمار المنطقة كلها على أساس الفوضى المجنونة.
إن العالم الإسلامي يملك من المقدرات ما يجعله قادرا على أن يشارك في تقرير مصير العالم كله، ولكن الضعف الذاتي الداخلي من جهة والقوة القاهرة المهيمنة عليه بفعل حراس الاستكبار وموظفيه من جهة أخرى، يمنعانه من ذلك.
إننا نناشد المسلمين، في هذا العيد، أن يأخذوا بأسباب القوة والعزة والكرامة والحرية، ليكون عيدا يرتفع فيه الواقع الإسلامي إلى المستوى الأعلى الذي يريد الله له أن يكون خير أمةٍ أخرجت للناس، لأنه لا عيد مع الضعف ومع الخضوع والمهانة والسقوط تحت تأثير قوة الآخرين.
أميركا: مغامرات جديدة في المنطقة
إن علينا أن نعرف أن أميركا التي يتجاذب إدارتها فريق ممن يعدون حمائم وآخر من الصقور، لاتزال تفكر في أن تكون بعض المواقع في العالم العربي والإسلامي ساحة من ساحات مغامراتها وحروبها، لأن ثمّة في هذه الإدارة من هو إسرائيلي أكثر من الإسرائيليين، وعلى رأس هؤلاء نائب بوش «تشيني» الذي لايزال يبعث إلى كيان العدو من يبلغه أن الحرب على إيران لاتزال واردة...
إننا نعرف تماما أن الحرب الأميركية على العراق انطلقت بتشجيع إسرائيلي للتخلّص من موقع يعتبره العدو استراتيجيا في مواجهته، وندرك - في هذه الأيام بالذات - أن «إسرائيل» هي الوحيدة التي قد تستفيد من حرب أميركية ضد إيران، وهي التي أصيبت بالصدمة بعد تقرير الاستخبارات الأميركية الأخير، ولذلك فهي تريد استخدام القوة الأميركية لحسابها وحساب مصالحها، وإن أدى ذلك إلى نتائج مدمرة على أميركا ومصالحها وعلى المنطقة برمتها.
ولذلك، فإننا نقول للأميركيين وللمؤسسات الأميركية: لقد حان الوقت لكي تتخلصوا من مغامرات المحافظين الجدد التي لا تأخذ مصالح أميركا في الحسبان، وحان الوقت للعالم كله كي يعمل لاحتواء هذا الفريق الأرعن المعادي للإنسان والإنسانية، والساعي لتدمير العالم وتعذيبه تحت عنوان الحروب الحسنة، وهي الحروب التي كانت وبالا على الإنسانية كلها، وأسهمت في اتّساع رقعة الإرهاب وفي زيادة أعداد الإرهابيين.
لبنان: تعطيل دولي للحلّ
أما لبنان، فإننا نلمح فيه عودة للأدوار الدولية التعطيلية على حساب الأدوار الساعية للحل، لأن الإدارة الأميركية لا تريد لأحد أن يُسجّل عليها أنها خسرت رهاناتها في لبنان، ونحن نعتقد أن أيّ توافق حقيقي مبني على قواعد سياسية متينة هو الذي يمكن أن يؤسّس لاستقلال حقيقي، ويمنع من التدخلات الخارجية في لبنان.
إننا في الوقت الذي نشعر بالأسى أمام هذا الهبوط في الأداء أو في الخطاب السياسي في لبنان، نعتقد أن الفرص لاتزال قائمة لبناء حلول واقعية متوازنة، ولا نريد للخطاب السياسي المشحون والمتوتر أن يقود إلى اهتزازات سياسية تقودنا نحو مشكلات أمنية، لأنه يكفي الناس ما تكتوي به من نيران الغلاء والأزمة الاقتصادية والسياسية.
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 1932 - الخميس 20 ديسمبر 2007م الموافق 10 ذي الحجة 1428هـ