العدد 1932 - الخميس 20 ديسمبر 2007م الموافق 10 ذي الحجة 1428هـ

الديمقراطية والخلاف على تعريفها

الحركات الإسلامية والفكر المعاصر (4)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

تطغى على مفهوم الديمقراطية والخلاف المطروح في ساحة التداول الايديولوجي نظرة إرادية تقوم على منهج تركيبي يغلّب معطى النص على تعقيدات الواقع، فهناك أسئلة مثل كيف نعرّف الديمقراطية؟ وكيف نطبقها؟ وهل نريدها؟ ومن أين نأتي بها؟ وهل هي مصطلح مفهومي أم معرفة؟ وهل للمعرفة - المصطلح علاقة بالتاريخ والثقافة أم هي نظرة مجردة يتم إنتاجها في المعاهد العلمية ويعاد تسويقها وتصديرها على أنها فكرة هلامية تصلح لكل زمان ومكان؟

هل الديمقراطية نظريا هي مجرد هيكل تنظيمي يقوم على فكرة أن الشعب مصدر السيادة، وتشكل العلمانية أحد مكوناتها الأساسية (المواطن والصوت الواحد)؟ وهل الديمقراطية عمليا هي مجرد تطبيقات سلوكية وإجرائية تتطلب وجود حكومة تمثيلية ودستورية وسلطة قضائية مستقلة؟ وهل هي أخيرا مجرد فكرة عامة ومبسطة تقول بالتعددية وتداول السلطة سلميا؛ ما يفترض وجود أحزاب وتنظيمات وهيئات مستقلة ومتنوعة يعترف بعضها ببعضها الآخر، وتتنافس على كسب الصوت الانتخابي؟ (مجلة «شئون الأوسط»، العدد الثالث، ربيع - صيف 1993، ص 73 - 75).

إذا كان الأمر كذلك يمكن إذا تدريس الديمقراطيات في المعاهد والجامعات على صورة معلبات فكرية وجاهزة يعاد صوغها في برامج أو نصوص قانونية، وما على الشعب سوى تعلمها وحفظها وأخيرا ممارستها، فتنتهي المشكلة بعد جيل أو جيلين ويقضي الشعب - أي شعب - حاجة تاريخية كان لابد منها لصنع تطوره.

لابد أن تكون المسألة أعقد من ذلك؛ لأن مثل ذلك التبسيط يسقط التاريخ من عملية التطور - الديمقراطي وغير الديمقراطي - بالقفز عن شروط المكان والزمان والقواعد التي يتأسس عليها الفكر. فالتبسيط الايديولوجي لفكرة الديمقراطية لا يقل خطورة عن أفكار تلك التيارات التي ترفض الديمقراطية؛ لأنها ترفض استخدام المفرد أو المصطلح؛ أو أنها تجد فيها فكرة مستوردة لا تناسب هذا التاريخ أو ذاك.

لابد من قراءة الديمقراطية قراءة واعية ومركبة تضع فكرتها في سياق تطورها التاريخي. فالديمقراطية لم تولد جاهزة ولا بقرار ولم تتسلل إلى التاريخ من المعاهد والجامعات. هي أساسا خلاصة أنماط من التنظيمات الإدارية أدخلت عليها التعديلات والتطويرات إلى أن انتهت إلى ما انتهت إليه بصيغتها الحالية، والصيغة الحالية ليست نهائية كذلك، بل هي قابلة للتطور التاريخي والإضافات والتعديلات لتتناسب مع المراحل المقبلة المتغيرة زمانيا ومكانيا.

يطرح علينا الإشكال السؤال الآتي: هل التطور الاجتماعي - السياسي في أوروبا مثلا جاء نتاج الديمقراطية أم أن الديمقراطية بصفتها أسلوب حكم جاءت نتاج التطور الاجتماعي - السياسي؟

إذا كانت الديمقراطية هي سبب التطور يكفي تطبيقها في أي بلد متخلف اقتصاديا واجتماعيا في العالم الثالث وما علينا إلا الانتظار لنرى النتائج، وبالتالي على «النخبة» أن تلخص برامجها في فكرة واحدة، وتصبح الديمقراطية هي المفتاحَ السحريَ لكل المشكلات حتى تلك الناجمة أصلا من تسلط الدول الديمقراطية الكبرى واستبدادها واحتكارها مصادر الثروة والقوة.

أما إذا كانت الديمقراطية هي نتاج التطور فلابد إذا من قراءة مختلفة لأزمات الدول المتخلفة اقتصاديا واجتماعيا في العالم الثالث، وتصبح الديمقراطية فكرة يمكن إدراجها في بناء الوعي المركب الذي يربط درجات التطور بتصور برنامجي يحدد أولويات مشروع النهوض والتقدم لهذه الأمة أو تلك.

كان لابد من وضع إطار عام لحدود الإشكال المعرفي المتعلق بفكرة الديمقراطية حتى نستطيع الدخول إلى الموضوع من سياق مختلف عن القراءات المتداولة، فهناك فارق كبير بين أن تكون الديمقراطية فكرة ايديولوجية جاهزة ومعطى نهائيا يقدم على كونه نموذجا سحريا للشعوب والأمم، وبين أن تكون صيغة تاريخية قابلة للتعديل والإضافة والتطور. فالمدخل الأول سالب في علاقته مع الآخر المختلف يحاول أن يأتي التطور من نهايته التاريخية الراهنة، على حين المدخل الثاني إيجابي ومتفاعل مع الآخر المختلف، إذ يحاول أن يرافق التطور بالتكيف مع الموروث التاريخي ويتصالح معه في سياق حركته المكانية والزمانية.

إذا كانت الديمقراطية صيغة قابلة للتطور فإذا يمكن تطويرها لتتناسب مع درجات التطور الاجتماعي - السياسي واختلاف نسب التقدم بين الأمم. أما إذا كانت معطى نهائيا وجاهزة للتصدير وهي سلطة أنتجها الغرب وما علينا سوى تعلمها في جامعات أوكسفورد وكمبريدج والسوربون ونقلها نموذجا بضاعيا، ولا حاجة بنا إلى العقل والتاريخ لصوغها من جديد وفق معطيات مختلفة في مكانها وزمانها، فإن المسألة تصبح خارج الفعل البشري.

المستشرق البريطاني - الأميركي برنارد لويس يسخر في مقاله «قراءة جديدة للشرق الأوسط» من التيار العربي الذي كان يرى أن «السبب الجذري لجميع الشرور والإخفاقات في العالم العربي هو فقدان الحرية، وأن في الديمقراطية وحدها حلولا لمشكلاتهم». ويربط لويس بين الديمقراطية وشعوب أوروبا فهي مسألة صعبة «بل لعلها الأصعب في إدارتها والمحافظة عليها بين جميع أنواع الأنظمة المعروفة، وقد نشأت في منطقة محدودة بين شعوب أوروبا الغربية والشمالية الغربية، ثم نقلها هؤلاء معهم إلى مستعمرات وراء البحار» (راجع مجلة «قراءات سياسية» نقلا عن مجلة «فورن افيرز» السنة الثالثة، العدد الثاني، ربيع 1993).

العقل والنقل

بين العقل والنقل يفضل العقل، وبين السلعة البضاعية والصيغة التاريخية يفضل التاريخ مصنعا بشريا للتطور الإنساني الذي لا يقف عند حد نهائي وأخير. والأسئلة التي طرحها لويس طرح الكثير من علماء الاجتماع أسئلة مثلها عن هوية الديمقراطية ومصدرها الأساسي: هل هي يونانية - أوروبية الأصل (مركزية المنشأ) أخذت تنتشر كونيا مع انتشار المركزية الأوروبية، أم هي عالمية الأصل قامت بأشكال مختلفة وابتكرت آليات خاصة تنسجم مع اختلاف ثقافات الشعوب، وأخذت تتطور ذاتيا بتطور العلاقات الاجتماعية - الاقتصادية؟ وهل هي فكرة (منهاج وممارسة) يتم استيرادها أم أنها بصفتها نواة موجودةٌ في كل المجتمعات والمطلوب تجديدها لتأخذ موقعها الخاص في العملية السياسية؟

للإجابة عن تلك الأسئلة، حاول بعض علماء الاجتماع التمييز بين الحياة السياسية في مجتمع مندمج وموحد دينيا وعرقيا ومذهبيا، وبين مجتمع مفكك وغير موحد في تركيبه الديني والعرقي والمذهبي واللوني. فالديمقراطية في المجتمع المتجانس اجتماعيا والموحد قوميا تختلف عن الديمقراطية في مجتمع غير متجانس وتنقصه الكثير من العناصر المشتركة لتعزيز وحدته القومية. في المجتمع الأول تنهض الديمقراطية بكونه إطارا سياسيا يعزز الوحدة ويطورها سلميا، على حين في المجتمع الثاني لابد من ديمقراطية توافقية تحترم حقوق الأقليات المختلفة عن الأكثرية القومية أو الدينية أو المذهبية حتى تضمن مصالحها الخاصة في سياق مظلة كبرى تضم كل الأعداد الطائفية والأنواع القبلية. حتى لا يقع علماء الاجتماع في تعميمات قانونية ودستورية وضعوا قواعدَ يقوم عليها الاختلاف بين ديمقراطية تأسست على تماس الجماعة الواحدة وتجانس الدولة القومية (فرنسا مثلا) وبين ديمقراطية تحاول تأسيس نفسها على جماعة غير موحدة ودولة غير متجانسة قوميا ودينيا (لبنان والعراق مثلا).

ولعل الاختلاف المذكور بين المستويين يفسر نجاح الديمقراطية في البلدان المتجانسة قوميا ودينيا ومذهبيا، إذ تعتمد الدولة قانون أحوال مدنية (شخصية) موحدا، وإخفاق الديمقراطية في البلدان المتنوعة والمتعددة قوميا ودينيا وقبليا ولكنها تعتمد قوانينَ مختلفة للأحوال المدنية (الشخصية) المتعلقة بالزواج والطلاق والميراث وغيرها لاستيعاب التنوع والتعدد ضمن التجانس السياسي.

حتى الدول المتجانسة قوميا والمتماسكة اجتماعيا والناجحة في السيطرة على مصادر العنف الداخلي أخفقت في السيطرة على مصادر العنف الخارجي فهي من جهة ديمقراطية داخليا وغير ديمقراطية خارجيا. وهناك بعض الدول الديمقراطية تحارب الديمقراطية في دول أخرى إذا شكلت خطرا على مصالحها الاقتصادية وأمنها القومي. وهناك بعض الدول تمارس الديمقراطية بين مواطنيها وتتبع أساليبَ غير ديمقراطية ضد غيرها أو ضد المختلف من مواطنيها تصل إلى حد العنصرية كما كان الأمر في جنوب إفريقيا وكما هو الأمر في فلسطين المحتلة.

الديمقراطية إذا ليست جوابا سحريا عن كل الأسئلة، إذ يجب أن يسبقها تأسيس الدولة، وتأسيس الجماعة، وتأسيس التقاليد. وربما تكون الدولة هي اللاعب الأول في تأسيس السياسة من حيث كونها تملك قوة القانون الذي يعيد ترتيب العلاقات السياسية بين المجموعات الأهلية. فالمستشرق لويس يضع في مقاله عن الشرق الأوسط شرطا أساسيا لنجاح أي نوع من المؤسسات الحرة هو «مستوى التطور الاجتماعي والاقتصادي المطلوب لدعم هذه المؤسسات»، فالعقبة الكبرى في رأيه هي في «المشكلات الاقتصادية الكبرى في المنطقة، كالفقر والتخلف الاجتماعي والتكنولوجي. ومن دون حل هذه المشكلات، يرجح أن يبقى سرابا كل احتمال لقيام ديمقراطية سياسية حقيقية» (المصدر نفسه). ويذهب زعيم حزب الأمة السوداني الصادق المهدي في اتجاه لويس في قراءة التكوين التاريخي لفكرة الديمقراطية والمتطلبات الاجتماعية لإعادة تأسيسها إذ يقول: «ينبغي الاعتراف بأن المؤسسات السياسية الديمقراطية نشأت في الشمال (يقصد أوروبا) بعد مرحلة معينة من التقدم الاقتصادي الاجتماعي، لذلك فإن بلاد الجنوب (يقصد العالم الثالث) المتطلعة للديمقراطية قد تجد نفسها مضطرة لوسائل مرحلية توفق بين الديمقراطية التعددية وحركة البناء الاجتماعي». (تحديات التسعينيات، شركة النيل للصحافة والنشر، القاهرة 1990، ص 135). يلاحظ الصادق المهدي في كتابه «تحديات التسعينيات» أن «النظم الديمقراطية الحديثة أضافت جانبا مهما هو أنها وضعت للمبادئ السياسية ضوابط مؤسسة لممارستها بدقة والحيلولة دون الانحراف الذي ينحدر إليه الطبع البشري». ويرى أن التعاليم الإسلامية السياسية خلت من تلك الضوابط. (ص 197).

لاشك في أن الديمقراطية هي من الوسائل المرنة التي تلطف اصطدام المصالح وتحد من عنفه، ولكنها في النهاية ليست قادرة على إلغاء الاصطدام وعدم حصوله. فالمصالح شيء والديمقراطية بصفتها آلة تنظم تضارب المصالح شيء آخر (لبنان نموذجا على تضارب الديمقراطية بالطائفية). فالديمقراطية في النهاية مجرد آلة لاواعية لتنظيم خلافات الناس سلميا وترتيب اختلاف وجهات نظرهم ومصالحهم في سياق لا عنفي، فهي ليست دولة ولا نظام حكم ولا تشريعا ولا تمت بصلة للعلمانية والليبرالية.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1932 - الخميس 20 ديسمبر 2007م الموافق 10 ذي الحجة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً