زيارة وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس الخاطفة إلى مدينة كركوك بعد يومين من تسليم البصرة إلى السلطات الأمنية العراقية وبدء تنفيذ القوات التركية هجمات جوية وبرية محدودة في شمال العراق، جاءت في وقت بدأت تشهد المنطقة متغيرات في التحالفات والأولويات.
الزيارة يمكن وضعها في ترتيب سياسي مغاير لتلك الجولات المكوكية التي حصلت طوال العام الجاري وضربت رقما قياسيا في عددها من دون أن تعطي الثمار المتوقعة منها. الجديد في طبيعة الزيارة الأميركية الأخيرة يمكن قراءة بعض تفصيلاته في مجموعة ملفات ساخنة لاتزال حتى الآن عرضة للتفاوض والتقلبات الدولية والإقليمية.
الملف النووي الإيراني دخل منذ فترة في منعطف مختلف بعد صدور تقرير أجهزة المخابرات الأميركية عن الموضوع. فالتقرير أغلق الباب أمام خيار القوة (الحل العسكري) والخيار الدبلوماسي (عقوبات إضافية يفرضها مجلس الأمن الدولي). وحين تغلق الطرقات أمام الخيارين (القوة أو العقوبات) يصبح الخيار الثالث هو المرجح. والحل الثالث يقتصر على باب واحد هو التفاوض السياسي مع إيران.
اضطرار واشنطن إلى اعتماد خيار التفاوض السياسي مع طهران وضع دول المنطقة أمام وقائع ميدانية قد تترك انعكاساتها على الأولويات الدولية والإقليمية سواء على مستوى مجلس الأمن أو الاتحاد الأوروبي أو روسيا الاتحادية أو دول «الشرق الأوسط».
التفاوض يعني إعادة فتح أبواب مغلقة مقابل إغلاق الأبواب المفتوحة. وهذا المعطى الجديد يفسر دوافع الزيارة الخاطفة التي قامت بها رايس إلى مدينة استراتيجية وغنية بالنفط وتشكل قاعدة عسكرية أمامية للقوات الأميركية المحتلة.
كركوك تعتبر الآن نقطة تجاذب إقليمية وعراقية ومنها يمكن قراءة الكثير من الاحتمالات المتوقعة في المستقبل القريب. فهذه المدينة معقدة في ديموغرافيتها السكانية (عرب، أكراد، تركمان) ومتداخلة مذهبيا (سنة وشيعة) ومحاطة بشبكة من الآبار النفطية التي تتحرك فيها نزاعات عشائرية منقسمة وموزعة على انتماءات طائفية وأقوامية ودينية. وبسبب هذه الطبيعة المركبة للمدينة ومداخلها ومحيطها توافقت القيادات السياسية والميدانية العراقية على تأجيل الاستفتاء على هوية كركوك ستة أشهر بعد أن كان الموعد المقرر سابقا في 31 ديسمبر/ كانون الأول الجاري.
تأجيل الاستفتاء على هوية المدينة جمد مؤقتا انفجار الوضع الداخلي، ولكنه لم يعطل إمكانات حصوله في وقت لاحق. فالتوتر الذي تشهده كركوك بسبب التغيير القسري لهويتها الدينية والقومية، سيعاود الظهور بعد فترة وخصوصا إذا أدى «التفاوض السياسي» الأميركي - الايراني إلى ترتيب علاقات ثنائية قد تؤدي إلى تعديل هيئة العراق وتوازناته. وربما تكون هذه المخاوف المفترضة عززت ذاك الدافع للتحرك التركي في شمال العراق.
الهجمات التركية الجوية والبرية المحدودة التي استهدفت مواقع عسكرية لحزب العمال الكردي التركي في الشمال تزامنت مع تحولات ميدانية ولوجستية حصلت في الجنوب. وتوقيت الهجمات المحدودة في الشمال مع عملية التسلم والتسليم في البصرة يعطي ذاك الانطباع عن وجود مخاوف تركية من احتمال حصول متغيرات جيوبولوتيكية (جغرافية سياسية) قد تحصل تحت مظلة التوافق المفترض بين طهران وواشنطن بشأن الملف العراقي.
التحرك لم يقتصر على الجانب التركي وإنما ظهرت بوادره في إسراع روسيا وتزويدها إيران بدفعة أولى من مواد مخصبة لتشغيل مفاعل بوشهر جزئيا. فموسكو كما يبدو تخوفت من احتمال انفتاح واشنطن على طهران والدخول معها في تسويات تشتمل ملفات حيوية في العراق والخليج والمنطقة العربية. وتحرك الكرملين يرسل إشارة إلى وجود قراءة روسية لمتغيرات قد تظهر قريبا في دائرة «الشرق الأوسط» وتحديدا بعد انتهاء جولة الرئيس الأميركي جورج بوش المقرر حصولها بين 8 و16 يناير/ كانون الثاني المقبل.
إلى التحرك التركي (العسكري) باتجاه العراق والروسي (النووي) باتجاه إيران حصلت أيضا تحركات واتصالات ولقاءات ودعوات عربية مختلفة سابقة ولاحقة نحو طهران. فبعد أن شارك الرئيس الإيراني للمرة الأولى في افتتاح قمة دول مجلس التعاون الخليجي، لبى أيضا للمرة الأولى دعوة مباشرة من خادم الحرمين الشريفين للحج وقضاء عيد الأضحى في الأراضي المقدسة. وبين المشاركة في القمة الخليجية وتلبية دعوة الحج زار وفد دبلوماسي مصري رفيع المستوى طهران وتم البحث رسميا للمرة الأولى في إعادة فتح سفارتي البلدين في العاصمتين بعد انقطاع دبلوماسي امتد أكثر من ربع قرن.
معطيات وقنوات
كل هذه المؤشرات تدل على وجود معطيات جديدة دخلت على خط القنوات الدبلوماسية وبدأت ترسم جدول أولويات في العلاقات والتحالفات الثنائية وربما الإقليمية والدولية. ومصدر كل هذه الإشارات الضوئية الحمراء والصفراء والخضراء هي تلك المتغيرات التي أخذت تضغط على واشنطن وتدفعها باتجاه رسم خريطة طريق جديدة لمنطقة «الشرق الأوسط».
إدارة واشنطن تعرضت في السنة الماضية إلى هزات سياسية زعزعت قناعات أيديولوجية كان الرئيس بوش يعتمدها في رؤيته للعالم. فهذا الرئيس «المختار» تلقى صفعة في الانتخابات التشريعية النصفية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2006 أدت إلى توليد سلطة موازية في الكونغرس تشاغب على قراراته. بعدها تلقى صفعة سياسية من تقرير بيكر - هاملتون والتوصيات التي نصحته بإعادة تدوير علاقاته واتصالاته في «الشرق الأوسط». فالتقرير السياسي الذي صدر قبل أكثر من سنة وبعد الانتخابات النصفية مباشرة أربك واشنطن داخليا ووضعها أمام تجاذبات محلية عطلت على الرئيس التفرد بخطواته وقراراته على امتداد سنة 2007.
الآن شارفت السنة الميلادية على الانتهاء. وقبل دخول الرئيس «المختار» عامه الجديد تلقى صفعة من تقرير المخابرات الأميركية المشتركة والخلاصات التي توصلت إليها بشأن توقف الجانب العسكري في المشروع النووي الإيراني عن العمل منذ العام 2003.
خلاصات المخابرات التي عززت صدقية تقرير محمد البرادعي (الوكالة الدولية للطاقة الذرية) قطعت الطريق أمام واشنطن وعطلت على الرئيس إمكانات الدفع باتجاه الحل الدبلوماسي (العقوبات) والحل العسكري (توجيه ضربة جوية) وبات على الإدارة الأميركية اختبار الخيار الثالث: التفاوض السياسي.
التفاوض السياسي لا يعني إطلاقا أن الملفات الساخنة دخلت منطقة البرودة وأصبحت في طريقها إلى الحل. فالمسألة معقدة وليست بسيطة إلى هذا الحد. التفاوض يعني فتح ملفات مغلقة وإغلاق ملفات مفتوحة، الأمر الذي يفترض معالجتها ضمن جدول أعمال يعتمد أولويات لا تتجانس بالضرورة مع السياسات التي كانت تلجأ إليها موسكو وواشنطن وطهران ودول الجوار في حالات سابقة. ولهذه الأسباب يمكن فهم تلك المخاوف التي ظهرت في مختلف الميادين. تسليم البصرة للقوات الأمنية العراقية الذي جاء بعد تقرير المخابرات، حرك النشاط العسكري التركي في الشمال، واستعجل موسكو لتسليم دفعة مخصبة لتشغيل مفاعل بوشهر جزئيا، وأثار العصبيات في كركوك... وربما يكون ساهم في تأخير الانتخابات الرئاسية في لبنان وتأجيل التفاهم بين «فتح» و «حماس» على رغم تلك الإشارات الملفتة التي أرسلت من سورية حين قررت دمشق المشاركة في «مؤتمر أنابوليس».
زيارة رايس الخاطفة إلى مدينة كركوك يمكن وضعها في إطار متغيرات جديدة بدأت تظهر في طبيعة العلاقات الدولية والتحالفات الإقليمية. فالمتغيرات ترتكز على معطيات مغايرة للمرحلة السابقة التي يبدو أنها انتهت بصدور تقرير المخابرات الأميركية المشتركة. والزيارة التي قامت بها رايس إلى العراق وبعض عواصم المنطقة تمهيدا لجولة بوش في مطلع السنة المقبلة تشكل علامة لافتة في سياق متغير يمكن رؤية عناوينه وتفصيلاته في فترة «التفاوض السياسي». التفاوض بدأ ولا تعرف نهاياته وملفاته وفترته والنتائج المتوقعة من تجاذباته الدولية واستقطاباته الإقليمية.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1931 - الأربعاء 19 ديسمبر 2007م الموافق 09 ذي الحجة 1428هـ