العدد 1931 - الأربعاء 19 ديسمبر 2007م الموافق 09 ذي الحجة 1428هـ

أحسن الله عزاءكم يا صيّادي البحرين!

خالد المطوع comments [at] alwasatnews.com

الآية القرآنية الكريمة (وهو الذي سخّر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلّكم تشكرون) قد لا تنطبق مستقبلا، والعياذ بالله، على المياه الإقليمية للبحرين، وقد تعد أكثر الآيات خشوعا وإراقة لدمع الصيادين البحرينيين الذين أصبحوا ودموعهم أكثر ملوحة وتأججا من طعم البحر المفجوع بجثث مصائده وفتات كنوزه وموارده الغذائية!

إنها والله لضريبة غالية جدا سيدفعها جميع مَنْ يقطن هذه الجزيرة الساحلية الصغيرة، ضريبة قاصمة بيئيا ومعيشيا تسببت فيها أعمال الدفان والردم الجائر وشفط الرمال وآثار»المشروعات الحيوية العملاقة» التي على زعم أنه ستكون لها مردودات إيجابية عالية ساهمت كما كان متوقعا في قلب المضامين التأملية الراقية لتلك الآية القرآنية الكريمة رأسا على عقب، وفي زيادة أوضاعنا البيئية تدهورا، وربما هي حشرت مستقبل الأمن الغذائي في أضيق زاوية حادة، وهددت بالتالي بشكل غير مسبوق تاريخيا وبيولوجيا مصائد الأسماك والروبيان في مياهنا الإقليمية كما لم تهدد من قبل!

ومثل هذه المعلومات والبيانات المنذرة بالخطر الداهم ليست لها أية علاقة من بعيد أو قريب بمزاج سياسي معيّن، أو حساسية ودلع «بيئي» مفرط، وإنما هي نتاج متراكم لتلك الجهود الكريمة والجبارة التي بذلها ويبذلها الباحثون والمختصون في «مركز البحرين للدراسات والبحوث» وغيرها من مؤسسات الدولة ذات الموثوقية والاعتمادية العالية التي نشرتها الصحف المحلية، ولعلّ دمار خليج توبلي ليس وحيدا في المضمارالبيئي بل هو تجربة انتحارية مذهلة تم تصديرها لمعظم مصائد البحرين!

وإنْْ كنا جميعا شركاء في دفع أثمان تلك الضريبة القاسية التي تتهدد مصير أمننا الغذائي المتزعزع، فإنه سيكون لهذه الضريبة ألم ومعنى أكثر التهابا لدى جميع الصيادين البحرينيين المحترفين من مختلف مناطق البحرين ممن يعتمدون على صيد الأسماك والروبيان في المياه الإقليمية للمملكة كمصدر وحيد للرزق المعيشي والكسب الحلال سواء أكانت مهنة توارثوها أبا عن جد أم أنها أتت كخيار وبديل منقذ بعد أن ضاقت بهم جميع السبل!

وبفعل استشراء التلوث البيئي وتدمير البيئة البحرية على نحو خطيرغير مسبوق، واستمرار عمليات المنع والتضييق على الصيادين من مزاولة مهنتهم الوحيدة في الكثير من مصائد الأسماك والروبيان بحجة أنها أصبحت محميات وممتلكات خاصة، فإنّ هؤلاء البشر والمواطنين ممن احترفوا ومارسوا ومازالوا يمارسون مهنة الصيد منذ عقود وضعوا للأسف أمام عائق كبير وتحد جسيم يعترض مواقعهم ومصادر رزقهم الوحيدة!

لقد أصبح عليهم من المتعذر جدا تحصيل رزقهم بما يضمن لهم ولأسرهم حياة كريمة، فبعد أن كانوا بالأمس موضع حسد من أقرانهم العاملين في مؤسسات القطاع والخاص نظير ما اقترنت به مهنة الصيد في التصور الاجتماعي العام من أنها مهنة خير وبركة ونماء متجدد، فإنهم الآنَ وللأسف أصبحوا في موضع لا يحسدون عليه بعد أن تواضع حجم محاصيل صيدهم بكثير عن ما كانت عليه سابقا، فأصبح هؤلاء المفجوعون يتنافسون على تقليل مستويات ونسب وأكلاف الخسارة من مزاولة مهنتهم التي ليس لديهم غيرها من مهنة كمصدر رزق وضامن لحياة كريمة وصالحة، فيكون حالهم كحال من يرمي أمتعته من على ظهر القارب في عرض البحر؛ ليحافظ على حياته وقاربه ويحميهما من خطر الغرق!

أحد الصيادين المحترفين والمخضرمين ممن مارسوا مهنة الصيد منذ عقود واعتمدوا ولازالوا يعتمدون عليها كمصدر وحيد للرزق يروي بحرقة وحسرة فيض المعاناة والألم الذي يواجهه وزملائه وأقرانه حينما يمارسون الصيد بـ «القراقير» مثلا في إحدى المصائد الأساسية في السواحل الجنوبية المملكة بفعل إقامة إحدى المشروعات الحيوية، فتكون النتيجة فائضا كبيرا من الأوساخ الطينية والقاذورات و»الشل» الذي يثقل ويثخن تلك الأدوات بشكل يصعب من سحبها من دون أي محصول آخر!

بل إنه وفي كثير من الأحيان تتضرر معدات الصيد وتتهتك الحبال وأدوات السحب بفعل الأوزان الهائلة لتلك الملوثات الفائضة والمخلفات الصناعية المدمرة والمحتبسة داخل أوعية ومعدات الصيد، فيكون الصيد في حد ذاته جزءا وجزاء من ذاك الدمار الهائل!

وإن كان لا أمل من احتواء مخلفات الدمار الهائل لتلك «المشروعات الحيوية الكبرى»، وإن كان لا مفر من الإفساح لمرور جنازة البحر، وإن كانت هنالك لا رجعة عن إتباع التدابير والخطوات الصارمة لتنحيف أمننا الغذائي، ولا عودة من أن تتحول البحرين وخيراتها وثرواتها ومواردها إلى محميات مغلقة وممتلكات خاصة في مرحلة «عصرية» من المفترض أن ينعم بخيرها الجميع بعدما شبع منه وترعرع عليه فطريا في البواكير البدائية الجميلة، ولا بدّ من أن يسلم الصيادون المعتمدون بشكل رئيسي على مهنة الصيد في كسبهم ورزقهم وعيشهم بقدرهم المؤلم وإن كان غير محتمل، فهل ستقوم حينها الدولة بمبادرة كريمة لتعويض ورعاية أبنائها الصيادين في كافة أنحاء البحرين وتخفيف حجم ووقع المصيبة عليهم على غرار ما حصل من تعويض لصيادين وأصحاب «الحظور» في منطقة المدينة الشمالية!

تلك التعويضات التي قدمت من قبل الهيئة المعنية للصيادين من محترفين وموهوبين وممارسين لهذه المهنة إلى جانب مصادر رزقهم الأخرى كانت خطوة محمودة وتستحق الإشادة إلا أن الأولى والأهم وما ينبغي الالتفات إليه هو أن الصيادين من مختلف مناطق البحرين الذين يحترفون هذه المهنة منذ عقود وسنين طوال ويعتمدون عليها بشكل رئيسي كمصدر للرزق والعيش الحلال هم أيضا بحاجة إلى تعويض عادل وإنصاف مستحق من قبل الدولة يقيهم من شرور البطالة والعوز والحرمان مع احتضار البيئة البحرية في مياهنا الإقليمية وتحول ثرائها المتجدد إلى مخلفات تشييد «مشروعات حيوية» أو محميات وممتلكات خاصة ومحظورة، فلابدّ في النهاية من الاستماع إلى صوت العقل والضمير والتفكير في حل استراتيجي بديل للأزمة لا إتباع حلول الترقيع والتجاوز السطحية، فمياهنا الإقليمية التي تحضن أمننا الغذائي أصبحت في خطر داهم وفي أحط أوضاعها انتهاكا وترديا بيئيا وكذلك هو حال المواطنين معيشيا، فلا يمكن التعامل مع الصيادين من باب أنّ لكل صياد منطقة صيده أو «حوطته» المغلقة القريبة من سكنه ومستقره طالما أنّ القانون يسمح للصيادين بمزاولة مهنتهم بــ»البوانيش» و»الطراريد» ومعدات الصيد الأخرى المجازة قانونيا في المياه الإقليمية للمملكة عموما ولا يوجد هنالك ما يلغيه!

فلا يخفى أبدا على الدولة والحكومة بأنه ليس من مصلحتها أبدا أن تتحوّل مجاميع صيادي البحرين وما تمثله من ثقل عددي كبير إلى صفوف العاطلين عن العمل، وأن يلقون في حضيض البطالة المعيشي وما سينتابهم حينها من شرور تهدد الاستقرار الاجتماعي والسلم الأهلي وتشكل أزمة مصيرية كبرى تكون عالة ضخمة على الدولة وعلى مسيرة التطوير والإصلاح المستمرة والمنشودة، فهذه البطالة التي ستأتي كقدر مؤلم بعد العجز عن تحمل ركام محاصيل الخسارات ستجعل الصيادين عرضة للاستغلال بكافة أنواعه بما فيه الاستغلال السياسي الانتهازي والمصلحي من بعض الفئات والمجموعات وهو ما يشكل في حد ذاته ضررا على سمعة الدولة ومصالحها، وسيزيد حتما من المآزق المعيشية ومأزق الاختلالات الطبقية الحاصلة!

الدولة التي تسمو وتنهض بحفظ القانون وفرض تطبيقه على الجميع من الأعلى إلى الأسفل، والتي تعتز وتفتخر بأقوال وخطابات وتصريحات القادة الكرام في مختلف المناسبات لما تتلمسه من معاناة المواطن المعيشية وتحرص على مصالحه وتعتبره أغلى ثروة ومورد قابل للاستثمار والتجديد لابدّ أن يتم تفعيل دورها الحتمي في مثل هذا المجال الحيوي.

ولابدّ من أن لا تظهر وكأنما هي تعمل بشكل غير مباشر ومن دون قصد على تشجيع الصيادين من جميع أبناء البلد على خرق قوانين الصيد وتجاوز المياه الإقليمية إذا ما أصبحت هذه المياه مقبرة قذرة، وفقدت مضمونها الحيوي بفقدان خيراتها ومواردها الطبيعية، وأن لا تجعل بالتالي من كل صيّاد بحريني مشروع متهم ومدان ومعتقل لدى السلطات القطرية والإيرانية إذا ما اضطر هذا البحريني ذات يوم أنْ يخرق القانون حتى لا تتخرق حياته ومعيشته ضنكا وحسرة، فالجوع كما يعلم الجميع كافر ابن كافر، وبذلك يصبح الحديث عن منظومة الأمن الوقائي كلاما دون معنى طالما أنّ العوامل الطبيعية المتوافرة تشجّع وتحتم خرق القانون الذي سيؤدي الالتزام به أو عدمه إلى رمي الصيادين البحرينيين في فم التهلكة، فهم بذلك موعودون أن يعيشوا حياة أشبه بحياة الهاربين والمهربين والمغضوب عليهم والضالين!

وأمام جملة تلك التراتبات المأساوية المتوقعة وجرائم السكوت ونفض الأيادي والمسئوليات من المبادرة والاستباق حتى لا يتحول الوضع السيئ إلى ما هو أسوأ أما آن للدولة أن تضع آلية قانونية لدعم وتعويض الصيادين البحرينيين المحترفين الذين يعتمدون على مهنة الصيد بشكل رئيسي في تحصيل رزقهم ومعيشتهم كجزء من دور الدولة في حماية ورعاية أبنائها ومواطنيها؟! ألم يحن الوقت لأنْ تكون هنالك أسس فعلية لتعويض شامل وموحد كميا لجميع الصيادين من الصنف المحدد من مختلف مناطق البحرين بحيث لا يستند هذا التعويض على عدد الرخص المملوكة ويقطع بالتالي المجال أمام التلاعب والاحتيال؟!

آباؤنا وأشقاؤنا الصيادون بجذورهم المغروسة والممتدة في كبد وشرايين البحر ليسوا طبعا بحاجة إلى صنف من تلك الردود الصبيانية الطائشة والمفلسة التي تتهمهم بالحسد والغيرة، فهم قد تحملوا الكثير والكثير من ردود بعض المسئولين الذين للأسف لا يفهموا أي شيء يتعلق بالأوضاع الميدانية والظروف العملية والواقعية السيئة التي يمر بها الصياد وأحوال مهنة الصيد والمخاطر المحدقة بها!

وهم لا يمكن أن يسكتوا عن ردود تخبرهم بأنّ هذا التعويض من أمر تلك الهيئة وحدَها، وكأنما هذه الهيئة دولة مستقلة وقائمة بذاتها وإلا فجزاها الله خير الجزاء لكونها قامت بما لم تقم به الحكومة تجاه مواطنيها!

وهم الصيادون قد شبعوا ذلا خذلانا من مختلف الجهات التي طرقوا أبوابها بما فيها السلطة التشريعية وممثليها الذين يعمل بعضهم بمبدأ نائب أقل من مستوى الدائرة، فيكون لوحده ممثلا فقط لمن انتخبه، وكأنما هذا البعض النيابي لم يقرأ الدستور الذي أقسم عليه ولم ير منه شيئا، ولم يطلع على جميع التشريعات الرئيسية، ولا يفقه من أوضاع المواطنين شيئا!

فلو فعلتها الدولة وكسبت معركة التحدي وقامت بضربة استباقية فعالة، ووضعت بذلك حلا واقعيا متكاملا لتلك الأزمة، وعوضت مواطنيها من محترفي مهنة الصيد بشكل متساوٍ، فسيكون ذلك أحسن عزاء محتمل لهم وأفضل تأبين محترم بعد رحيل رفيقهم البحر، فهل نقول لصيادينا ومواطنينا «أحسن الله عزاءكم»؟!

إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"

العدد 1931 - الأربعاء 19 ديسمبر 2007م الموافق 09 ذي الحجة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً