فيما يستعد الطرفان الإيراني والأميركي لجولة حوار جديدة حول الأمن في العراق، يشهد الإقليم المحيط «بالمتباحثين» - باعتبار أنّ القيادة الإيرانية لاتزال مصرّة على اعتبار ما يجري بينها وبين الأميركي هو مجرد مباحثات وليس مفاوضات - أجواء عالية جدا من التوتر المتنامي على خلفية فشل الأطراف الفلسطينية واللبنانية للتوصّل إلى حلول توافقية كانت قد لاحت في الأفق وكان يفترض بها أنْ تؤدّي إلى خفض مستوى النزاعات كما كان يفترض البعض ممن اعتقد للحظة أنّ واشنطن قررت ملاقاة الإيرانيين والسوريين المتخاصمين معها في أكثر من ساحة عند منتصف الطريق!
ومع ذلك ثمة مَنْ يعتقد أنّ جولة المباحثات الإيرانية الأميركية الجديدة في بغداد ستكون مختلفة هذه المرة عن سابقاتها التي يُقال إنها كانت أشبه ما تكون «بالمرافعة» التي كان يقدّمها كلّ طرف ضد الطرف الآخر متهما إيّاه بضرب الأمن والاستقرار العراقيين، فيما يعتقد أنْ تتحوّل هذه المرة أقرب ما تكون إلى محاولة الاقتراب من مقاربات لتلمس حلولا شبه «توافقية» للمشكلة الأمنية العراقية على قاعدة خفض مستوى النزاع بين الخصمين اللدودين على الساحة العراقية في مقدّمة تعميم هذا التوافق على الإقليم!
ويعتقد أصحابُ هذا التحليل بأنّ تقرير الاستخبارات الأميركي الأخير ما كان ليرى النور لولا هذه الخلفية التي هيّأت لاستئناف المباحثات والتي تأتي مرّة أخرى بإلحاح عراقي متزايد ولكن هذه المرة بطلب أميركي رسمي وهو ما يحصل لأوّل مرة مما يؤكّد حصول تراجع أميركي واضح عن خيار التصادم العسكري!
في هذه الأثناء ثمة مَنْ يجادل فيما إذا كان تقريرالاستخبارات الأميركي الأخيرعن إيران والذي برأها من تهمة حيازة برنامج للتسلّح النووي، عبارة عن تراجع حقيقي ونهائي عن مخطط كانت تعد له واشنطن لضرب إيران، أم هو مجرد تراجع تكتيكي يحمل في طيّاته «خدعة ما» في إطار الحرب الاستخبارية التي لم ولن تنقطع بين الخصمين الاستراتيجيين اللدودين!
لاشك في أنّ التقرير يحمل في جوهره وفي صلبه تراجعا أكيدا عن مقولة وفكرة إن إيران تشكّل خطرا داهما! يتهدد الأمن الدولي والأمنين الأميركي والإسرائيلي وهي الفكرة التي كانت تبني عليها إدارة بوش وإدارة الكيان الإسرائيلي تحشيدهما وتحريضهما الدولي ضد طهران لتبرير اللجوء إلى الخيار العسكري الذي كانتا توحيان أنهما بصدد الإقدام عليه في أية لحظة في حال فشلت جهود تجميع إجماع دولي مناسب يجبر طهران على وقف برنامجها النووي ولاسيما عمليات التخصيب المتواصلة.
لكنّ التقرير يحمل في طيّاته أيضا «معلومة» ملغمة ومفخخة مفادها أنّ طهران كانت تسعى للتسلّح النووي فيما سبق من السنوات وأنها قد أوقفته في العام 2003! وهو ما أريد منه الإيحاء بأمرين الأوّل وهو أنّ طهران ليست مبرأة تماما من فكرة السعي للتسلّح النووي! والثاني وهو أنّ المطلوب من المجتمع الدولي أنْ يبقى على حشده ضد طهران متماسكا حتى لا تعود مرة أخرى إلى سياق ما قبل العام 2003!
مما تقدّم نستطيع الاستنتاج ما يأتي:
أوّلا: إنّ فكرة الخيار العسكري ضد طهران والتي كانت متحمسة لها دوائر ضيّقة في واشنطن متصلة بما تبقى من مدرسة المحافظين الجدد قد خسرت الرهان الداخلي كليّا في ضوء انتصار جماعة الخيار الدبلوماسي بزعامة الثنائي كونداليزا رايس - روبرت غيتس، اللذين يتعكزان على نصائح لجنة بيكر - هاميلتون لمعالجة مختلف الملفات المتورّطة بها واشنطن وفي طليعتها الملفان الأمني العراقي والنووي الإيراني ولاسيما في ضوء الخلاصة التي توصلا إليها بالإكلاف الباهظة جدا وغير القابلة للتصوّر للخيارالعسكري ضد طهران بعد تجربة «البروفة» المصغرة للحرب على لبنان في الصيف الماضي!
ثانيا: إنّ المطلوب الآنَ لما تبقى من مدّة الرئاسة الأميركية هو إبقاء النار «حامية» حول طهران ولكن بدرجة توتر منخفض، من خلال استمرار الضغوط المكثفة من حولها وإبقاء سيف العقوبات المتصاعدة ضدها مسلّطا أيضا، ليس بهدف إخافة طهران بقدرما هو تجميد موازين القوى الدولية والإقليمية غير المشجّعة على اللجوء إلى الخيارالعسكري ضدها كما هي، حتى لا تخسر واشنطن المزيد من المواقع ومساحات النفوذ والتأثير في ظل التراجعات والانتكاسات الاستراتيجية التي تصيب السياسات الأميركية في العالم منذ أن تعثر مشروعها العام في محطة العراق وغرقت سفينة المحافظين الجدد في مستنقعه!
ثالثا: إبقاء ماكينة «إسرائيل» الدعائية والتهويلية ضد طهران نشطة ومفتوحة على آفاق التصعيد الممكنة متى ما تطلبت الحاجة أو تغيّرت موازين القوى الإقليمية أوالدولية الآنفة الذكر لصالح التلويح بالخيار العسكري مجددا ولكن بحسب حاجة تل أبيب وليس واشنطن!
رابعا: وأخيرا استعادة بعض الصدقية الأميركية التي وصلت إلى الحضيض بعد سيناريو أسلحة الدمار الشامل العراقي ولو بمفعول رجعي، في حال انتهى عهد بوش ولم تقدم الإدارة الأميركية على أية خطوة عسكرية ولو محدودة ضد طهران من خلال الإيحاء بتعلّم الإدارة الدرس اللازم من العراق واستبداله بالأسلوب الأنجع الجديد الذي جمع بين ممارسة الضغوط المكثفة وإبقاء سيف الخيار العسكري سيفا مسلطا من دون استعماله!
أخيرا، فإنّ ثمة مَنْ يعتقد بأنّ واشنطن تقترب من خيارات جدية لترك الأمور على عواهنها في الإقليم وعدم اكتراثها باجتراح حلول أو تسويات جدية لأي من الملفات الساخنة وترحيلها مجتمعة إلى الإدارة المقبلة لتثقل كاهلها بها مع اقتراب الماراثون الانتخابي الأميركي من الانطلاق، وهي العارفة بأنّ حظوظ حزبها فضلا عن الدائرة الضيّقة التي كانت محيطة بالرئيس والتي ضللته في العراق وغير العراق - أي المحافظين الجدد - لم يعودوا يملكون حظوظا جدية أو حقيقية في كسب معركة الرئاسة!
وفي هذا السياق بالذات يظهر مَنْ يقول ويؤكّد أنّ هذه الأجواء هي التي ستخيّم على مباحثات طهران - واشنطن في بغداد وهي التي على ما يبدو تسبب أجواء الفوضى والتخبّط في الخيارات والخيارات المضادة التي تلجأ إليها واشنطن وحلفاؤها أو المراهنون عليها في الساحات الأخرى وفي طليعتها الساحة اللبنانية الملتهبة سياسيا وأمنيا واستخباريا!
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 1929 - الإثنين 17 ديسمبر 2007م الموافق 07 ذي الحجة 1428هـ