العدد 1929 - الإثنين 17 ديسمبر 2007م الموافق 07 ذي الحجة 1428هـ

الدستور اللبناني ومخاوف المسيحيين

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

للمرة التاسعة يتم تأجيل جلسة انتخاب رئيس جديد للجمهورية اللبنانية. وجاء التأجيل الأخير على رغم الاتصالات الدولية والإقليمية والتدخلات المباشرة والتصريحات التي أنذرت وحذرت من المماطلة والتسويف. فالرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي حذر من التأجيل معتبرا أنّ جلسة الإثنين (أمس) هي «فرصة أخيرة». وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس أرسلت مساعدها لشئون «الشرق الأوسط» ديفيد وولش إلى بيروت للاتصال والضغط والتطمين وعاد من دون نتيجة ميدانية تذكر.

مسألة الرئاسة في لبنان معقدة. وتعقيداتها ليست محلية ودستورية فقط وإنماهي ناتجة عن ضغوط دولية وإقليمية أخذت تدخل في الأشهرالأخيرة في منعطفات تؤشر إلى وجود نوع من التحالفات الغامضة وتنتظر بعض الوقت لارتسام معالمها.

مشكلة الرئاسة لاتقتصرعلى الجانب المحلي والدستوري. فهذا الجانب موجود ولكنه لا يعتبر النقطة التي تفصل التقاطعات بقدرما يمثل مركزا تتقاطع في وسطه الضغوط الخارجية في إطاريها الدولي والإقليمي. فالدستور اللبناني تحوّل منذ العام 2004 إلى «مسخرة» بعد أن بات عرضة للتعديل الدائم «مرة واحدة فقط». وحين تصبح مواد الدستور مجرد أدوات طيّعة قابلة للتأويل والتفسير تتحوّل إلى حقول اختبار للتجاذبات السياسية العشوائية وتفقد مع الأيام احترامها. وعدم التعامل الجدي مع الدستور يعني استسهال التلاعب بمصير الدولة وتوازناتها وسيادتها وإضعاف موقعها الخاص في ترتيب علاقات الطوائف والمذاهب والمناطق.

عدم احترام الدستور يعادل عدم احترام الدولة. وهذا النوع من التلاعب في بلد تتعايش فيه الطوائف والمذاهب تحت سقف دولي يؤدّي إلى إضعاف الدولة وتقوية الملل والنحل عليها، الأمر الذي يعطل إمكانات التوصّل إلى حل دستوري خارج لعبة السياسة. هذا الوضع الاستثنائي الذي يمر به لبنان في إطار فضاء دولي/ إقليمي يشهد بداية انعطافات في التحالفات والأولويات يفسّر إلى حد معيّن، الدوافع التي أدّت إلى إقفال أبواب التفاهم على انتخاب رئيس ضمن المهلة الدستورية ودفع البلاد نحو منطقة خطيرة أطلق عليها السفير الأميركي السابق «الفراغ الهادئ».

منذ 24 نوفمبر/ تشرين الثاني تعيش بلاد الأرز فترة قلقة جدا نتيجة خروج الرئيس السابق من قصر بعبدا وبقاء المقعد شاغرا ينتظرالتفاهم السياسي على جلسة تجيز التعديل الدستوري وتفتح الباب لقائد الجيش لانتخابه. الفراغ الرئاسي الذي تم تمديده للمرة التاسعة بدأ يدخل الآنَ في قنوات ضّيقة قد تؤدّي إلى تفجيرالاستقرارالسياسي في لحظة غير محسوبة بدقة. فالمماطلة والتأجيل وإعادة تمديد الفراغ بقصد كسب الوقت بدأ يترك تأثيراته السلبية على التحالفات المحلية إذ أخذت القوى المتضامنة في «8 و14 أذار» تتباعد عن بعضها وتنتقل من موقع الاعتراض السياسي على تعديل الدستورإلى موقع الاعتراض الطائفي. وهذا التحوّل في قراءة الأزمة سيترك آثاره السلبية على التحالفات السياسية وربما أدّى إلى انكفاء القوى المسيحية في «14 أذار» إلى دائرتها الجغرافية في وقت بدأت القوى المسيحية في «8 أذار» تتلمس بوادر صفقة أو بيعة دولية/ إقليمية في المنطقة.

الإشارات الأولى عن احتمال حصول مثل هذه التوجهات ظهرت خجولة في الجلسة النيابية التي تعطلت أمس. فالقوى المسيحية في «14 أذار» مانعت تعديل الدستور بشكل عشوائي ومن دون احترام لقواعد اللعبة خوفا من أنْ يتحوّل التلاعب إلى سابقة تسمح للبرلمان أنْ يقدم على خطوات تعديليه أو تغييرية في المستقبل من دون عودة إلى رئيس الجمهورية والحكومة.القوى المسيحية في «8 آذار» لم تمانع تعديل الدستور ولكنها وضعت «سلة» من الشروط المسبقة التي يمكن أنْ تصبح إلزامية وتكبّل الرئيس المنتخب بسلسلة قيود تعطل عليه ممارسة صلاحياته.

مخاوف المسيحيين في لبنان بدأت ترتفع لأسباب موضعية وسياسية. فمن الجانب الموضعي هناك جملة ضغوط ميدانية أخذت بمحاصرة منصب الرئاسة وسحب موقعه التقريري ودوره في إدارة اللعبة على أعلى المستويات. ومن الجانب السياسي برزت مجموعة شروط تعتبر في إطار الميثاق من الحقوق المكتسبة التي لا يجوز التهاون فيها حتى لا تتحوّل «المرة الواحدة» إلى قاعدة غير دستورية تعطل على رئيس الدولة ممارسة صلاحياته نظرا لتوازنات تضعها القوى السياسية خارج المؤسسات وتفرضها بالضغط الشارعي على الدولة.

مخاوف صحيحة

هذه المخاوف ليست جديدة ولكنها بدأت الآنَ تتحوّل إلى هواجس حقيقة بسبب الظروف الإقليمية التي تحيط بالكيان الصغير. فهذه الدولة المحكومة بالتجاذبات الجغرافية والدولية تمر في لحظة استثنائية أخذت تتعرض خلالها خريطة «الشرق الأوسط» للتبديل والتغيير سواء على مستوى التحالفات أو على مستوى معادلات الطوائف وارتسام لوحات من «الفيديراليات» في المنطقة.

مخاوف المسيحيين في هذا المعنى الدقيق سياسيا ودستوريا شرعية ومشروعة في حال أخذ لبنان كما هو ومن دون تعديلات مفروضة من الخارج. والقلق الذي أخذت درجة حرارته بالارتفاع ليس مصطنعا؛لأنه يستند إلى خبرات وتجارب سابقة ومشاهد تحطيم وتمزيق وتقويض تعرضت لها دول المنطقة على طول امتداد «قوس الأزمات» من أفغانستان إلى غزّة. والعراق في هذا السياق يعتبر النموذج الساطع على شاشة «الشرق الأوسط» وتلك الخرائط السرية التي يعلن عنها بحياء أحيانا.

انكفاء المسيحيين إلى بعضهم بعضا ومن مواقع متعارضة يمكن رصده في أكثر من خطاب تعكس رؤى تحتاج إلى وقت لترتسم خطوطها في برامج سياسية قابلة للحياة والتنفيذ. القوى المسيحية في «14 أذار» ترى أنّ الدستور ليس لعبة يخضع صعودا وهبوطا للامزجة السياسية والمناورات الإقليمية وإنما هو «الدولة» في معنى الإطار الضامن للمناصب والصلاحيات وهو بالتالي يسبق السياسة وأقوى منها؛ لأنه يشكّل المرجع الأخير لمختلف الطوائف والمذاهب والمناطق. والقوى المسيحية في «8 أذار» ترجح السياسة على الدستور «مرة واحدة فقط» ولكنها أيضا ترى أنّ الحرص على ضمان كسب «سلة الشروط» لا يعطل إمكانات العودة إلى استعادة صلاحيات «الرئيس» التي انتزعت منه «لمرة واحدة». وكلام الجنرال ميشال عون عن حقوق «المسيحيين واللبنانيين» وضع فاصلة للتمييز بين «المسيحي» و»اللبناني» وكأنّ الأوّل ليس الثاني والثاني يختلف عن الأوّل. وهذه الفاصلة (حرف الواو) التي عطفت المسيحي على اللبناني تعتبر اشارة تعبر عن تخوف وقلق وربما بداية نزوع نحو ترسيم الحدود الفاصلة بين الطرفين.

هذه المخاوف المسيحية المشتركة بين «8 و14 أذار» لو جاءت في ظروف اعتيادية لكان بالإمكان قراءة إشاراتها موضعيا. ولكن المشكلة أنها تأتي في لحظات مصيرية تمر فيها المنطقة وبدأت تكشف عن خطوط سياسية في خريطة «الشرق الأوسط» ربما تحوّلت إلى نوع من التوافقات التي تتقاطع فيها مصالح الدول الكبرى مع قوى إقليمية فاعلة ميدانيا.

الكلام عن «الكانتونات» لم يعد من الأمور الخفية في المشرق العربي وبلاد الرافدين. وهذا الموضوع كان ولايزال مدار بحث وأخذ ورد وتجاذبات ولكنه ليس بعيدا عن حركة الواقع ومتغيراته في بلاد الرافدين ودول الجوار. وتصريحات عون المتكررة عن «حقوق المسيحيين» ليست كلها انفعالية تصدر عن جنرال وضابط مدفعية سابق وإنما تعكس تلك المخاوف الذي أشار إليها الرئيس السابق لحزب الكتائب كريم بقرادوني حين تشدد في المطالبة بوجود «تحالف مسيحي رباعي» يضم عون وأمين الجميل وسمير جعجع وسليمان فرنجية.

الإشارات المحلية والمتغيرات الإقليمية كثيرة في هذا الاتجاه. وأخطر علاماتها زيارة مساعد وزيرة الخارجية ديفيد وولش إلى بيروت قبل يومين من فشل جلسة أمس حين أكد مرارا على «حقوق المسيحيين» وإن أميركا لن تتخلى عن لبنان والمسيحيين.

المسألة إذا معقدة وهي في أساسها ليست محلية ولا دستورية ولاسياسية وإنما لها امتداداتها الإقليمية والدولية، وإشاراتها المطروحة والمنقولة أو تلك التي أخذت بالارتسام ميدانيا في بلاد الرافدين ترسل علامات لمرحلة مفارقة قد تزعزع استقرار الكيانات الهزيلة.

مخاوف المسيحيين ليست مفتعلة خصوصا حين يتطوّر الضغط السياسي على الدستور ليصل إلى مساحات تتجاوز قواعد اللعبة وما تتطلبه المعادلة من احترام لنصوص تعتبر هي الضامنة لمعنى الدولة ودورها في إدارة التوازن ضمن صلاحيات الرئاسة وتداخلاتها القانونية والميدانية مع الرئاسات الأخرى.

تغليب السياسة على الدستور مسألة خطيرة وتثير القلق عند المسيحيين. وهذه النقطة صحيحة لأنها في النهاية تقلص من قوة القانون لمصلحة قانون القوة. وبين الأولى والثانية لابدّ من ضوابط قانونية تضمن نصوص الدستور وصلاحياته. وهذا النوع من المزاج العقلاني لم يظهر أمس في جلسة التأجيل التاسعة.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1929 - الإثنين 17 ديسمبر 2007م الموافق 07 ذي الحجة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً