كيف يمكن التعامل سياسيا وعقلانيا مع عملية التسلم والتسليم التي حصلت أمس في البصرة؟ نفرح ونرسل برقيات التهنئة. نحزن ونشتم بريطانيا على إعلان الحرب والاحتلال. نسكت ونتفرج على مشهد غريب من نوعه.
تعدد المشاعر ليس مصطنعا. فهناك الكثير من الذرائع التي تبرر تعدد المشاعر. مثلا برقيات التهنئة بالانتصار وخروج قوات الاحتلال لمن ترسل. إلى حزب الفضيلة، قوات فيلق بدر، جيش المهدي (أنصار مقتدى الصدر) أم إلى حكومة نوري المالكي المتحالفة والمتعاملة مع الاحتلال الأميركي أم إلى القوات العراقية التي لم تقاتل القوات البريطانية أبدا أم إلى المقاومة التي لا تعرف هويتها أو عنوانها.
المشاعر المتضاربة تشير إلى أن الانسحاب ليس بالضرورة انتصارا للمقاومة ولا هزيمة للاحتلال. إنه انسحاب ناجم عن فشل وربما إعادة ترتيب للاحتلال في ضوء تسوية تستهدف إعادة تركيب صورة العراق بعد تقسيمه.
البصرة هي النموذج وربما تكون عينة صغيرة عن العراق «الجديد». فالمدينة التي سلمتها أمس قوات الاحتلال البريطانية إلى السلطات العراقية بعد نحو 5 سنوات من حرب تقويض دولة بلاد الرافدين هي نسخة مبرمجة عن العراق النموذج. فالاحتلال الذي استولى على العراق دولة واحدة بدأ بتسليمها قطعة قطعة لقوى سياسية متضاربة تسيطر ميدانيا على الأرض.
تحت أي عنوان يمكن إدراج ما حصل ويحصل منذ العام 2003. هزيمة الاحتلال. هزيمة العراق. هزيمة النظام السابق. انتصار النظام البديل. انتصار المقاومة. هزيمة فكرة الدولة. انتصار الطوائف والمذاهب. هزيمة الوحدة. انتصار الانقسام والانشطار والتقسيم والتقاسم. وتوزيع الغنيمة وفق نظام الحصص والمحاصصة.
كل هذه العناوين يمكن أن نضعها جنبا إلى جنب من دون أن نتوصل إلى توصيف نهائي للمشهد الكارثي في العراق وتلك المأساة المتدحرجة من مكان إلى آخر. والاختلاف على العنوان يعكس فعلا تلك الصورة المحطمة التي انتهى إليها العراق بعد سنوات من الغزو الأميركي - البريطاني. واختلاف القراءة ليست مسألة بسيطة لأنها في منطقها الداخلي ترسل إشارات متعاكسة عن حقيقة المشاعر. فإذا كانت بريطانيا انهزمت فمعنى ذلك أن العراق انتصر؟ وإذا كانت قوات بريطانيا خرجت من البصرة مكرهة فمعنى ذلك أن أهل البصرة انتصروا؟ فهل حقا بريطانيا انهزمت؟ وهل حقا البصرة انتصرت؟
المشكلة ليست في الأسئلة وإنما في الأجوبة أيضا. الأجوبة أسئلة والأسئلة أجوبة. وهذا يعني أن هناك مشاعر متعارضة تمزق وحدة الموقف ولا تلتقي على رؤية مشتركة في التعامل مع المسألة. وأساس المشكلة هي عدم وجود هوية واضحة للانتصار. والهزيمة أيضا لا عنوان لها. عدم الوضوح يشكل ذاك الإطار العام الذي يضغط لمنع إرسال برقية تهنئة لجهة معينة بالانتصار أو برقية تعزية لجهة أخرى بالانكسار. عدم وضوح الهوية المعطوف على غموض العنوان يثير فعلا تلك الأسئلة والأجوبة المضطربة.
ماذا حصل فعلا في العراق؟ هل هذا كان مخططا له منذ البدء؟ وهل هذا ما أرادته أميركا وبريطانيا من إعلان الحرب والاجتياح؟ هذا جانب من الصورة.
الجانب الثاني من الصورة يطرح أسئلة مضادة. ما حصل في العراق ليس مخططا له؟ الاحتلال وضع تصوراته على الورق إلا أن الواقع الميداني فرض شروطه وعدل المعادلة؟ الاحتلال فاز عسكريا ولم ينتصر سياسيا. الاحتلال نجح في تقويض الدولة وفشل في بناء النموذج البديل.
الجانب الثالث من الصورة يطرح بدوره أسئلة أخرى. المقاومة التي تصدت للاحتلال فشلت في قطف الثمار. والمقاومة التي رفضت الغزو انقسمت وانعزلت وتبعثرت. المقاومة التي قاتلت اخترقت من شبكات سرية وانحرفت وخسرت شعبها ومحيطها. المقاومة أو فرق الموت التي نحرت الأبرياء وقطعت الرؤوس فشلت في جذب الناس إلى صورتها.
الجانب الرابع من الصورة يثير أسئلة. المتعاملون مع الاحتلال استفادوا. المستفيدون من الاحتلال اكتسبوا. من تعامل مع الاحتلال انتصر. ومن تعاون مع بريطانيا وأميركا على غزو العراق نجح في أخذ المناصب والمواقع والمدن والمحافظات وبدأ يتقاسم الثروة وينهب الخيرات.
صورة رباعية الأبعاد
المشهد العراقي يشبه تلك الصورة الرباعية الأبعاد. وهو أغرب مشهد في التاريخ الحديث. المقاومة الصينية انتصرت على الغزو الأجنبي وأخذت الحكم. المقاومة الفيتنامية أيضا استولت على السلطة بعد خروج أميركا. المقاومة الهندية السلمية والمسالمة أخذت الدولة بعد انسحاب بريطانيا. المقاومة الجزائرية، واليونانية، والروسية، والفرنسية، والأميركية... كل المقاومات وحركات الاستقلال الوطني في التاريخ المعاصر تقريبا اتجهت في المسار نفسه، من حيث تشابه المقدمات مع النتائج.
في العراق المشهد معاكس. المتعامل مع الاحتلال هو المنتصر عليه أو المستفيد منه. بينما المعترض على الاحتلال لا يعرف مكانه أو عنوانه أو هويته. فالمستفيد من المقاومة هو من يكون في موقع الضد منها. ومن يأخذ السلطة أو يتسلم مقاليد المدينة هو من تعاون مع الاحتلال.
القوات البريطانية لم تسلم البصرة للمقاومة بل سلمت أمس المدينة للسلطات الأمنية العراقية التي دربتها أجهزة الاحتلال. وهذا المشهد الغريب من نوعه في التاريخ الحديث أعطى ذريعة لتلك الأسئلة المتعارضة التي تعكس مشاعر متضاربة بين الفرح والحزن. فالفرح يمثل ذاك الاعتزاز بخيبة الاحتلال البريطاني، والحزن يمثل تلك الخيبة من مصير العراق والمستقبل الغامض الذي ينتظره.
مشهد التسلم والتسليم في عراق محطم يعكس تلك الصورة السياسية الرباعية الأبعاد. هناك انتصار. هناك هزيمة. هناك مقاومة. وهناك عملاء. وحاصل النتيجة أن العراق «الجديد» لن يكون إلا على صورة الواقع المنشطر إلى طوائف ومذاهب (فديراليات مناطق) تتصارع القبائل السياسية على الفوز بخيراته ونهب ثرواته. فهل الرسالة التي أرادت بريطانيا توجيهها للعراق وأهل المنطقة تتلخص في معادلة «من يتعامل يكسب ومن يرفض التعامل يخسر».
هذا النموذج السلبي الذي انتهى إليه العراق يمكن مراقبة تطوره وتداعياته من البصرة. فالمدينة تشكل بداية تراجع للاحتلال وربما بداية انحسار للعراق (الدولة) عن الخريطة السياسية وظهور العراق (الطوائف) على ساحاته الممتدة من شط العرب إلى أعالي دجلة والفرات. فما حصل ليس بريئا وليس جميلا، ولكنه أيضا ليس بسيطا في رموزه وإشاراته التي ترسل ومضات سريعة ومتعارضة بين أسئلة الفرح وأسئلة الحزن.
بين الفرح والحزن ترتسم صورة محطمة ناتجة عن وعي شقي يصعب عليه التعامل عقلانيا وسياسيا مع عملية تسلم وتسليم لا يعرف إذا كانت بداية انتصار أو بداية هزيمة. الوقت يتكفل بالإجابة. ومن انتظر كثيرا يستطيع الانتظار قليلا.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1928 - الأحد 16 ديسمبر 2007م الموافق 06 ذي الحجة 1428هـ