العدد 1926 - الجمعة 14 ديسمبر 2007م الموافق 04 ذي الحجة 1428هـ

عودة التنافس الفرنسي - الأميركي على المغرب والمشرق

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

«تستطيع الولايات المتحدة أن تعتمد على فرنسا في سياستها الدولية». «تستطيع واشنطن أن تعتبرأن لها صديقا في باريس». «أنا أحب أميركا ومعجب بها». هذه الفقرات هي جزء من تصريحات متتالية أطلقها نيكولا ساركوزي منذ انتخابه رئيسا لفرنسا حتى عقده ذاك اللقاء في واشنطن مع الرئيس الأميركي جورج بوش في مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.

طوال ستة أشهر وأكثر حاول الرئيس ساركوزي تمييز مرحلته عن عهد الرئيس السابق جاك شيراك. وجاءت التصريحات «الغرامية» بالنموذج الأميركي وسياسة واشنطن لتطمين الرئيس بوش أن فرنسا ليست ضد الولايات المتحدة وهي جاهزة للتفاهم وعلى استعداد للتنسيق والتضامن معها لقيادة السياسة الدولية وتوجيهها نحو معالجة الملفات الساخنة التي كانت مدار خلاف بين الطرفين في فترة الرئيس الفرنسي السابق.

أطلقت سلسلة التصريحات الساركوزية إشارات ضوئية باتجاه واشنطن في محاولة منها للتأكيد على أنّ مرحلة شيراك انتهت وأنّ باريس أصبحت في وضع مختلف يسمح لها بالتفاهم والتنسيق والتضامن أوروبيا ودوليا.

حرص ساركوزي على تمييز فترته وبهذه السرعة القياسية انطلق من مجموعة قناعات «أيديولوجية» تحتاج إلى تدقيق في تحديد الأسباب الحقيقية التي أدت إلى ذاك الاختلاف المنهجي بين السياستين الفرنسية والأميركية. فشيراك لا يتحمل وحده مسئولية ذاك الخلاف الذي تأسس بين الإدارتين. والدوافع التي أملت على شيراك اتخاذ مواقف نقدية من بوش كانت نتاج عوامل سياسية واقتصادية ومصالح دول ولم تنطلق من رؤى مزاجية وشخصية، بينما بوش حاول في مطلع عهده وبناء على تفاعلات هجمات سبتمبر/ أيلول 2001 الداخلية والعالمية أنْ يستفيد من ردود الفعل ليؤسس عليها قراءة أيديولوجية استغلها تيار«المحافظين الجدد» لتمرير مشروعه التقويضي في «الشرق الأوسط» بذريعة أن هذه المنطقة الاستراتيجية والحيوية والغنية تشكل بؤرة ثقافية للإرهاب الدولي.

هجمة تيار «المحافظين الجدد» على أوروبا والعالم هي التي أسست ذاك الاختلاف الإيديولوجي (المصلحي) بين الإدارتين الفرنسية والأميركية. فالولايات المتحدة في ظل انفعالات ضربة سبتمبر حاولت الانفراد في تقرير سياسة الدول وتحديد أدوارها ومصالحها من دون الاكثرات للقانون الدولي (مجلس الأمن) وتوازن القوى وحقوق الأمم ومصالح المؤسسات والشركات التي تنتمي إلى جنسيات أخرى.

هذا الاختلاف الشيراكي - البوشى ارتسمت معالمه في طريقة التعامل الأميركي المتهور في الموضوع العراقي والأسلوب الغريب في معالجة ذاك الملف. وبسبب الرؤية الفرنسية المضادة بدأ الافتراق بين شيراك وبوش انطلاقا من بلاد الرافدين فقاد الرئيس الفرنسي الحملة الدولية المناهضة للحرب بالتعاون مع ألمانيا وروسيا والصين. وفشلت الحملة في منع الولايات المتحدة من الانفراد في مشروع الحرب، الأمر الذي رفع منسوب التوتر بين البلدين وكاد أن يصل الأمر إلى حد القطيعة بعد أن قررت أميركا مقاطعة البضائع الفرنسية ومنع دخولها السوق بذريعة أنْ شيراك يكره شخصيا الثقافة الأميركية.

استمر التعارض بين الطرفين من العام 2002 إلى العام 2004 إذ شهدت العلاقات سلسلة توترات تمثلت في اختلاف الرؤية بين الرئيسين في مختلف الملفات تقريبا من أوروبا وآسيا وأميركا اللاتينية إلى العراق وسورية ولبنان وفلسطين والمغرب العربي.

تقليديا تعتبر فرنسا أنها صاحبة الموقع الأفضل في التعامل السياسي والاقتصادي والثقافي مع سورية ولبنان ودول المغرب العربي (تونس، الجزائر، والمغرب) بسبب ماضي الانتداب على هذه المساحة الجغرافية. إلا أنّ إدارة بوش دخلت على خط التنافس وأخذت بمزاحمة الشركات الفرنسية والضغط عليها وعلى الحكومات لقطع الطريق على الصفقات والاتفاقات وخصوصا مؤسسات الطاقة والتصنيع الحربي.

سقف المصالح

هذا الخلاف الشخصي تطوّر تحت سقف المصالح. فالدولة الفرنسية اكتشفت أنها ممنوعة من التحرك حتى في مناطق الانتداب التقليدية، الأمر الذي زاد من حدة الاختلاف الأيديولوجي بين الرئيسين. واستمر التنابذ الشخصي - المصلحي إلى أنْ حصلت أزمة تمديد الرئاسة في لبنان في العام 2004. فهذه المحطة شكّلت مناسبة للولايات المتحدة لإعادة قراءه العلاقة مع فرنسا وخصوصا حين بادرت واشنطن إلى صوغ القرار 1559 ردا على تمديد فترة الرئيس السابق أميل لحود ثلاث سنوات إضافية.

مسألة التمديد التي ترافقت مع قرار دولي خطير يتناول مجموعة ملفات إقليمية انطلاقا من ساحة لبنان أحرج شيراك ودفعه إلى تخفيف اعتراضاته على العراق الذي أصبح تحت الاحتلال منذ العام 2003. إلا أنّ الحادث الأهم الذي دفع فرنسا نحو التفاهم القسري مع أميركا كان اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري. فالجريمة أودت بحياة صديق شيراك وما تمثله تلك الصداقة من شراكة سياسية واقتصادية.

اغتيال الحريري في العام 2005 شكل مناسبة للولايات المتحدة لاحتواء غضب شيراك والاندفاع نحو مصادرة الكثير من الأوراق الفرنسية على مستويات مختلفة وتحديدا سورية ولبنان في المشرق العربي وتونس والجزائر والمغرب في شمال إفريقيا. فالتفاهم الشخصي بين الطرفين بسبب اغتيال الحريري استغلته واشنطن لإبعاد باريس عن لعب دورها التقليدي في مناطق الانتداب الفرنسي. وأدّت المسألة إلى ترسيم حدود علاقات متأزمة ومشروطة بحدود نسبية بحسابات غير متطابقة بين الدولتين. فرنسا بحاجة إلى أميركا لمساعدتها في إعادة نفوذها إلى لبنان وسورية وأميركا بحاجة إلى فرنسا لوقف حملتها المعارضة لاحتلال العراق.

تحت سقف الحاجتين استمرت آلة القتل الجهنمية في اغتيال سلسلة شخصيات ونواب ورجال صحافة في لبنان. وكل حلقات السلسلة التي استهدفت محسوبة تقليديا على فرنسا وتنتمي إلى مدرسة ثقافية أوروبية غير معجبة تقليديا بالنموذج الأميركي. وبهذا المعنى، كانت واشنطن مستفيدة سلبا من كل الاغتيالات التي نفذت في اعتبار أنّ الوجوه تمثل مراكز قوى أو مواقع ثقافية ذات قيمة معنوية واعتبارية لفرنسا وليس للرئيس شيراك شخصيا. واستمر هذا الوضع المأسوي يتجاذب الطرفين سلبا وإيجابا إلى أنْ انتهى عهد شيراك في مطلع الصيف الماضي بانتخاب ساركوزي.

الرئيس الفرنسي الجديد اختلف في تعامله مع الملفين السوري واللبناني وامتداداتهما الإقليمية (العراق وفلسطين وإيران) وانقساماتهما السياسية في بلاد الأرز. كذلك اختلفت رؤية ساركوزي عن شيراك في مخاطبة العقل الأميركي الذي أصبح في موقع المعترض على حروب تيار «المحافظين الجدد» في أفغانستان والعراق. واختلاف ظروف المرحلتين أعطت ساركوزي تلك القوة للاندفاع الأيديولوجي نحو واشنطن بهدف تمييزعهده عن الفترة السابقة، ولكنه اقتصاديا قام بخطوات مستقلة وزيارات خاصة لدول المغرب واتصالات مباشرة بالرئيس السوري.

أميركا الآنَ أصبحت في موقع الدفاع دوليا وإدارتها مطوّقة في الداخل وتنتظر لحظات السقوط في الانتخابات الرئاسية المقبلة. بينما أميركا في عهد شيراك كانت في موقع الهجوم دوليا وإدارتها كانت تملك مقومات شعبية ناجمةعن استخدامها الأيديولوجي لمفاعيل هجمات سبتمبر.

هذا الاختلاف في الموضعين أعطى فرصة لساركوزي باتخاذ مسافة عن شيراك في التعامل مع الملفين السوري واللبناني واستتباعاتهما العراقية والفلسطينية والإيرانية. كذلك حاول ساركوزي استرداد مواقع فرنسا التقليدية في المغرب العربي انطلاقا من رؤية أيديولوجية (فكرة الاتحاد المتوسطي) ومصالح اقتصادية (عقد صفقات بالمليارات مع دول المغرب وليبيا). وأدى هذا التزاحم الاقتصادي إلى إعادة التنافس الفرنسي - الأميركي في المشرق العربي والمغرب العربي إلى سابق عهده بعيدا عن تلك الخلافات الشخصية (المصلحية) التي طبعت فترة شيراك.

ساركوزي يطلق يوميا تصريحات «غرامية» تبدي إعجابها بالولايات المتحدة والنموذج الأميركي وفي الآنَ يقدم على توقيع عقود بالمليارات مع الصين وليبيا والجزائر ويقوم بجولة من الزيارات المتوسطية ويشرف شخصيا على معالجة ملفات شديدة التعقيد وتحديدا في لبنان الذي يعاني من أزمة جديدة في موضوع انتخابات الرئاسة.

تصريحات ساركوزي «الغرامية» بالولايات المتحدة لا تعني الكثير على مستوى التقارب السياسي واختلاف أولويات باريس «الشرق الأوسطية» عن برنامج شيراك وأولوياته. وذاك الغرام الثقافي لا يعني إطلاقا تراجع التنافس الفرنسي - الأميركي على مستوى حقول الاقتصاد والمصالح. فالولايات المتحدة التي دخلت في السنوات الماضية على خطوط فرنسا واقتحمت مواقعها في المشرق والمغرب لن تتراجع عن مكاسبها حتى لو كانت تمر في ظروف دولية مخالفة لمرحلة شيراك.

عودة التنافس الفرنسي - الأميركي إلى الشاشتين الإقليميتين المشرقية والمغربية من الباب الاقتصادي وتحت سقف «الغراميات» الثقافية تزيد المزاحمة على المصالح وربما تشكل ذاك الغطاء الضبابي لمجموعة توترات أمنية (تفجيرات) كما شهدت الجزائر والمغرب حديثا وكما ظهرت ملامحها الجديدة في استئناف الاغتيالات وتعثر انتخاب الرئيس في لبنان.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1926 - الجمعة 14 ديسمبر 2007م الموافق 04 ذي الحجة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً