العدد 1926 - الجمعة 14 ديسمبر 2007م الموافق 04 ذي الحجة 1428هـ

«يعيش أهل بلدي وبينهم مافيش»!

خالد المطوع comments [at] alwasatnews.com

اقترب العيد الوطني، وانشق قمر الصدفة والغيبوبة الزمنية عن عيد مبارك آخر نقدسه نحن المسلمون من كل حدب وصوب وهو عيد الأضحى، ففي هذا العام سيكون عندنا عيدان أو عودان للفرح وهما عيد للوطن وأبنائه وعيد للهوية والانتماء والتقرب الرباني، فتبارك الذي جمع العيدان والعودان في لباس وقتي واحد!

ولكن مهلا ففي بلادي وأمام سيول الأفراح والمباهج العارمة جبالا ورواسي من الهموم والأحزان المعيشية التي تجعل من كل ما هو عارم إلى عائم، فهناك من أغلب المواطنين المعدمين ممن يرون في قمر الصدفة المنفلق إلى فلقتين مبهجتين هما «العيد الوطني» و»عيد الأضحى المبارك» بمثابة فأل نحس وشر وشقاء وطني، والعياذ بالله، وكأنما هذا القمر المبهج هو قمر (بدر) الاستذئاب حسب ما تروي ذلك الميثولوجيات الفولوكلورية الغربية، وحسب ما ترويه فولكلوريتنا المعيشية المحلية عن مثل هذا القمر إذا ما حل أو ارتحل إذ تستذئب غوائل المعيشة وهمومها العاوية، فتروع الآمنين وتستوحش بالمعدمين، فإن باركت للمواطن عيده الوطني المجيد قد يقول لك «الفقر في الوطن غربة»، وإن هنأته بعيد الأضحى المبارك ربما يقول لك «وهل نحن الأضحية في هذا العيد السعيد؟!»!

وربما يتقي المواطن المسكين شرا همجيا يسمونه له الكهنة إلها، فيصمت بغصة «تقوية» عسى أن لا يبلغه ويبلعه علماء وعملاء المتنفذين في مساجد ضرار بأن «خط الفقر» الذي لم يكن حتى الآن هو ذاته الصراط المستقيم الذي من صعده يدخل الجنة ومن سقط منه سقط في النار، وبورك من جعل من دينه تجارة رابحة في الدنيا والآخرة، ومن أفلح في التعامل النفعي والارتزاقي مع مناهل ومراعي الدين بنظريات العرض والطلب، فيقتصوا بذلك آية عن «الطاعة» حسب الطلب مقابل إلقاء آيات بينات عن العدل والمساواة والإنصاف في عرض التجاهل والنسيان!

وربما يواجه المواطن عتاب وتقريع المثقفون والمفكرون والمنظرون الإقطاعيون ومعهم في الجوقة ذاتها كتاب المساج والأندية الصحية بأن خط الفقر يا مواطن ويا غلبان هو ذاته خط الاستواء الجغرافي ثابت في مكانه الطبيعي وإن كان حتى وقتنا الراهن غير مرئي، وأنه على المواطن أن يشغل باله بالحديث عن الاستثمار والعقار وجزائر ودرر الأحلام وإن لم يكن قد رأى أفق الخلاص المعيشي في شواطئ شبه منقرضة، وعليه أن يبتعد عن السياسة والتسييس وكل ما يوجع الرأس ويكدر مزاجيات الأرصدة البنكية وذلك في الوقت الذي أصبحت فيه تلك العوالم الاقتصادية أشبه ما تكون بالبساتين والمقصورات والحدائق المسيجة على أهلوها من المتنفذين والأجانب، وأصبحت السياسة والتسيس أفضل «بساط فقر»ممكن!

كيف يهاجم أعداء الشعب هذا الشعب بما ليس له من خلاص إن كان ما نعيشه في البلاد في وقتنا الراهن ليس إلا في هيكله الأساس بعد تقشير الطلاء أشبه ما يكون بأزمة سياسية واجتماعية بنيوية تتداخل أطرافها العصبية أولا وآخرا، وتسوس في عبثيتها أعناق ونحور الموارد والإيراد، فالمشكلة المتأصلة هنا بجذرها العالمي ليست في فائض الإنتاج والادخار الاقتصادي وإنما في شح التوزيع وفي غياب العدالة الاجتماعية وجميعها أساسا لا بد وأن تستند إلى قرارات سياسية وان تفعل بحراك اجتماعي ضاغط ومتمدن، وإن كانت مختلف دول العالم من الأقطاب الرأسمالية العتيقة والحديثة قد حاولت واجترحت جاهدة حلولا وطنية حمائية للحد من أثر الأزمة الهيكلية في البنيان الرأسمالي فأعدت أنظمة رعائية فاعلة للتخفيف من حدة التفاوت بين المداخيل مثل ألمانيا وغيرها، فكيف نحن أمام هذا التحدي الأعمق وجودية ومصيرية؟!

تلك الدول وإن كانت الأقرب ضمن نطاق تلك الأزمة الدولية التي تتهاوى فيها الطبقات الوسطى إلا أنها نجحت في التكيف والحد من ذلك، وأقرت بأن وجود تنمية الاقتصادية دون تنمية سياسية وتنمية اجتماعية مؤسسة قاعديا لا يحقق أية صورة تكاملية لتنمية مستدامة، فما بالك بجوهر التجربة؟!

تلك الحواضر الرأسمالية الكبرى بأنفتها وأنفيتها النيوليبرالية الفارعة قد أقامت للنقابات العمالية والأهلية ولمنظمات المجتمع المدني وزنا ولم تقعدها مصاف العصابات والشراذم المارقة، ولم تخلق لها مسوخا منظمة تبلبلها وتشوشها، ولم تسن لها ما يهيئ لها وضعا تشريعيا يجعلها أشبه ما تكون بحظائر الدواجن ومزارع الأبقار، تلك الدول جمعت بين الإرادة والتقرير، فلم تجعل الأخير سقفا والأولى قبرا، في تلك الدول يكون النقابيون ونشطاء المجتمع المدني المتأصلون بشتى أطيافهم ضمن مقدمات وفود ووقود المفاخرات الرسمية أمام كبار الضيوف الزائرون وليسوا وقودا حيويا ومتجددا للبطالة والعطالة والتضور جوعا وقهرا!

وإن كان من صراع أزلي نشهده في بلادنا فهو بين عقليات الإقطاع المؤسساتي الراسخة والنقابات أو مع عموم منظمات المجتمع المدني، فالأولى عودتنا على أن تبتز وتتهم الأخيرة المستضعفة حينما تمارس حقوقها المشروعة من تظاهر واحتجاج سلمي بحجة أنها تقوم بتعطيل مسيرة النهضة والتنمية، وتنقض جودة واستمرارية الخدمات الحيوية المقدمة للمواطنين، عسى أن تتمكن الأولى بمكر من إشغال المواطنين بمشكلة تعطل الخدمات والعطايا المؤسساتية عن قضية العدالة والمساواة والحرية الكبرى، فيصبح حال النقابي المتضور جوعا وبطالة كحال بالع شفرات الموسى أمام ابتزاز الأرباب و»نرفزة» المواطنون المغيبون!

نحن بذلك وللأسف لم نأخذ وننهل من الرأسمالية القطبية إلا جانبها الإقطاعي المأزوم، وتجاهلنا فيها ما يتعلق بفاعلية التكوين والتأدية التي تقوم بها منظمات ومؤسسات المجتمع المدني الفاعلة والمبتكرة والخلاقة بأدوارها الحيوية في عدة أكناف رأسمالية عريقة، بل إننا ولأجل محاربة تهديد المجتمع المدني أعدنا إحياء تجارب توتاليتارية وشمولية بالية من الحقب الشيوعية السابقة كــ»الغونغو» وغيرها!

ولعل ما يعرفه أعداء الشعب ربما عودا بهم من «إيمانهم الجديد» إلى «أيام الجاهلية» الأولى، إلى خلفياتهم الأكاديمية والثانوية التأسيسية وإلى ذخيرتهم الثقاقية المكتنزة إلى أجل غير ذي مسمى بأن الاعتماد على المجلات والكتالوجات التسويقية الزاهية والقنوات الفضائية الخفيفة التي يكثر توافرها في مراكز المساج والأندية الصحية ومحلات السوبرماركت ووكالات السفريات جميعها لا يكفي أبدا لدراسة وسبر أغوار تجربة من التجارب النهضوية والتنموية العالمية المعاصرة، فباستيراد التجارب التنموية قد تستورد معها الأزمات، وما قد يتجاهله هؤلاء بان تلك الدول لم تحقق نهضتها ورفعتها إلا مع ارتفاع مكانة المواطن وقدره، فأي استحمار أكثر ننتظره ممن غلب غريزته النفعية على رجاحة عقله الخابية؟!

يحدثك ويفرحك كتاب المساج والأندية الصحية و»النشطاء» عن ما نبلغه من تنافس نهضوي واعد مع الدول المتقدمة، فإن انتقدت رداءة أبسط الخدمات الحيوية المقدمة للمواطن يخيروك بين القبول بما يجود عليك فيه بلدك وما يجود به حضيض ببؤر الاشتعال والتأزم كالعراق والصومال وأفغانستان!

وإن كنا نؤمن بأن للفقر في بلادنا أسبابا ومقومات بنيوية و كلاسيكية - تقليدية لا تزل قائمة إلا أن الأسباب المنهجية المكرسة مؤسساتيا وعموديا أثبتت تنافسية لا مثيل لها في مضاعفة حجم الأزمة الوطنية، فلا يعقل أن نتحدث عن كثرة الإنجاب والتناسل ونتبع بعدها خيار «لوثة التجنيس» بانتهازية فجة تأتي على حساب المصلحة العامة والقومية للبلاد ومواطنيها، ولا يمكن أن نحاسب المواطنين على إنفاقهم، ونتجاهل مقادير الإنفاق والتبذير المضاعفة مليونيا فذلك من سخف التدبير وقبح التعذر، فالربع والنصف والثلاثة أرباع أكبر من الخمس والــ2.5 %!

فليسمح لي المواطنون بأن أتركهم في فاتحة أسبوع العيدان والعودان، وكلي أمل أن تزداد رحابة صدور وعقول وآفاق من يعنيهم الأمر، عسى أن نكرس مفهوما أجدى فاعلية لمواطنة اجتماعية وسياسية واقتصادية بمنظور حقوقي تقدمي وعصري، عوضا عن إعادة نبش «مواطنة» لا تجلب ولا تطرد إلا بقرع الأجراس والطبول ونثر الألوان الزاهية، لكأنما «مواطنتنا» المنشودة تلك هي إلهة وثنية أو روح شريرة حرون ضلت طريقها بعد أن ساقها القدر إلى مجاهل العصور البدائية!

فلأترك المواطنون مع خير الكلام، مع ما كتبه الشاعر أحمد فؤاد نجم وغناه المبدع الراحل الشيخ إمام للأشقاء المصريون ذات يوم، فربما وجدوا في ذلك ما يعنيهم ويعزيهم وهو:

« يعيش أهل بلــــــــــــــــــــدي

و بينهم مافيــــــــــــــــــــــش

تعارف يخلي التحالف يعيــش

تعيش كل طايفـــــــــــــــــــة

من الثانية خايفــــــــــــــــــــة

و تنزل ستاير بداير و شيـــش»

ومقطع آخر:

«يا غلبان بلدنا

يا فلاح يا صاتع

يا شحم السواقي يا فحم المصانع

يا منتج يامبهج يا آخر حلاوة

يا هادي يا راخي ياعاقل ياقانع

ما تتعبش نفسك

ف شغل السياسة

و شوف انته شغلك

بهمة و حماسة «

وآخر:

«و عود عيالك فضيلة الرضا

لأن احنا طبعا عبيد القضا

و رزقك ورزقي و رزق الكلاب

دا موضوع مؤجل ليوم الحساب»

ولحديثنا أفق آخر بإذن الله تعالى ...

إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"

العدد 1926 - الجمعة 14 ديسمبر 2007م الموافق 04 ذي الحجة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً