العدد 1925 - الخميس 13 ديسمبر 2007م الموافق 03 ذي الحجة 1428هـ

الإسلاميون كما تراهم الدولة الحديثة

الحركات الإسلامية والفكر المعاصر (3)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

في حديث صحافي جرى في مطلع التسعينات في القاهرة نشرته صحيفة «الحياة» الصادرة في لندن مع وزير داخلية عربي ذكر فيه أنه «لاحظ أن شباب الجماعات الإسلامية يتحدثون لغات أجنبية ويرتادون الأندية ودور السينما والمسرح ويلبسون الجينزات ويمتطون السبدرينات ويحلقون ذقونهم». واكتشف الوزير «العبقري» من الملاحظات التي وردته من الأجهزة الأمنية «أن هناك مؤامرة أصولية خبيثة تريد التمويه على رجال الأمن من خلال تغيير أشكال وملابس وأحذية شباب الجماعات الإسلامية لتنفيذ عملياتهم الإجرامية».

يقدم كلام الوزير فكرة شاملة عن الفهم الخاطئ لأصول الجماعات الإسلامية المعاصرة ومصادرهم الايديولوجية. فالوزير اكتشف مؤامرة؛ لأنه فشل في تحليل المشكلة وتفكيكها. وبسبب سوء التحليل استنتج أن هناك قرارا سريا اتخذته الجماعات الإسلامية وطلبت من شبابها اللجوء إلى أساليب الاحتيال لتمويه النشاطات.

من حق وزير الداخلية أن يعلن اكتشاف مؤامرة، ولكن ليس من حقه أن يقف تحليله على عتبة ذاك الاستنتاج الخرافي. كان عليه أن يقلب تفكيره ويقول إن شباب الجماعات الإسلامية يفعلون ما يفعلون لأنهم هم كذلك.

تطرح معضلة الوزير إشكالا فكريا عن الحركات الإسلامية المعاصرة وتعيد فتح باب النقاش في الظاهرة بصفتها نتاج تحولات اجتماعية ايديولوجية تتحكم فيها ظروف المكان وعوامل الزمان.

إذا قلبنا كلام الوزير وقلنا إن أشكال وملابس شباب الجماعات الإسلامية ليست مؤامرة، فما هي إذا؟ السؤال يفرض علينا تحليل الظاهرة وقراءة عناصرها وتفكيك عواملها حتى نصل إلى تقديم جواب معقول عن مشكلة يقال إنها تواجه الأنظمة والحكومات العربية.

إذا لابد أولا من إسقاط فكرة المؤامرة. ولابد ثانيا من دراسة الظاهرة في سياقها التاريخي.

وهنا تقفز ملاحظات الوزير إلى واجهة التحليل مرة أخرى. إذا كانت «مؤامرة» شباب الجماعات الإسلامية ليست مؤامرة فلماذا يتحدث هؤلاء الشباب لغات أجنبية ويرتدون الأزياء الأجنبية. جواب أنهم هكذا ليس كافيا؛ لأننا نستطيع أن نسأل: لماذا هم هكذا؟

لابد إذا من قراءة الواقع؛ لفهم حركية شباب الجماعات الإسلامية. لا نستطيع الآن أن نغوص في التاريخ وتفاصيله، ولكن يمكن القول على صيغة جواب سريع إن هؤلاء نتاج أزمة التحديث في العالم العربي، هم كتلة حديثة أفرزتها سياسات تحديثية فوقية تم تطبيقها بأساليبَ تجريبية مختلفة في الكثير من الدول العربية على امتداد أكثر من قرن.

هؤلاء الشباب - بكلام سريع - هم نتاج أزمة الحاضر وليسوا من إفرازات أزمة الماضي. وهم في النهاية أولاد عصرهم ومكانهم وزمانهم قبل أن يكونوا أبناء عصر غيرهم ومكان غيرهم وزمان غيرهم؛ لذلك يجب البحث عن مشكلة هؤلاء في الحاضر وليس في الماضي. وينبغي في النهاية أن نعمل على تغيير الحاضر وتحسين شروطه وليس تغيير الماضي؛ لأن الماضي مضى ولن يتغير.

يتحدث هؤلاء لغات أجنبية ويستعيرون مناهجَ أجنبية، ويرتدون أحيانا ملابسَ أجنبية؛ لأنهم في النهاية كتلة حديثة تعلمت في معاهد بريطانيا وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة وجامعاتها وربما في الاتحاد السوفياتي سابقا. وإذا لم تسافر هذه الجماعات إلى الغرب فإنها على الأقل تعرفت إليه وعايشته وتعايشت معه في بلدانها من خلال المدارس الأجنبية والمصارف والشركات والمسرح ودور السينما. فالكتل السياسية المذكورة لم تتشكل قبل الاحتكاك بل تشكلت بعد حصوله، ولم تتكون في سياق تاريخي مستقل عن المجتمع بل إنها تكونت في سياق مشترك. فأزمتها من أزمة المجتمع وأفكارها هي نتاج التلاقح الصدامي الذي حصل بسبب ذاك التأزم. وفكر بعض الجماعات المأزوم هو أصلا نتاج الأزمة العامة للمجتمعات العربية، بل ربما هو أفضل تعبير عن ذاك التأزم.

نأتي إلى السؤال المفارق. كيف تسنى لهؤلاء الدمج بين فكر الماضي ولغة الحاضر؟ وكيف أمكن إنتاج تركيب معقد يجمع بين زمنين ومكانين متغايرين تاريخيا؟

هنا بالضبط يقع إشكال المعرفة وهو إشكال معقد كان من الصعب على ذاك الوزير أن يفهمه. فالإشكال ليس مؤامرة وفي الآن ليس نتاج الماضي. فالبحث عن عوامله وأسبابه يجب أن يتم في الحاضر ومشكلاته التي تبدأ بالبحث عن هوية والدفاع عن ثقافة وتاريخ وتنتهي بأزمات اجتماعية واقتصادية وتنموية.

تعقيدات خطاب الأصالة والأصولية تبدأ من هذا السؤال المفارق الذي يشير إلى جواب مركب يجمع بين عناصر قوة الموروث والحاضر المأزوم.

هذا لا يعني أن حداثة خطاب الأصالة هو نتاج فشل التحديث، بل ربما هو نتاج التحديث بعينه، وبقدر ما نتوغل في التحديث نتوغل في البحث عن الماضي. وبقدر ما يتقدم التحديث فسيتقدم خطاب الأصالة. إنها مفارقة تاريخية تقوم على معادلة متناقضة، ولكنها أساسا ليست متناقضة بل منطقية جدا. فالشيء كما نعلم ينتج ضده. والنقيض لا يستقيم إلا بنقيضه. وهو نتاج تناقض النقيضين. والضد بحاجة إلى ضده ليتقدم.

إذا ترجمنا هذه المعادلات المنطقية (والمثالية) نجد ما يشبهها في الواقع التاريخي. فالتاريخ أيضا هو نتاج حركة بين المتناقضات. والجدل بين الحداثة والأصالة هو جدل بين حداثتين متفارقتين. وما يحصل اليوم في الكثير من البلدان العربية والإسلامية وخارج البلدان العربية والإسلامية من نمو أصوليات مفارقة هو نتاج ذاك التصور المأزوم عن عالم الماضي وعالم المستقبل. وسيبقى الجدل قائما من دون حل؛ لأن حل التأزم يعني وقف التقدم وإلغاء مسار الزمن في تطوره إلى الأمام. وما يحصل اليوم ليس جديدا بل قديما قديم الزمان.

إذا كان الجديد ليس جديدا، فما الحل؟ طبعا الحل ليس على طريقة وزير الداخلية المذكور الذي اعتقد أن هناك مؤامرة خبيثة، وطلب من الأجهزة الأمنية ملاحقتها وكشفها. وإذا تم الأمر وأخذ كلام الوزير بجدية فمعنى ذلك أنه يعلن الحرب على المجتمع كله. وهي حرب دموية طويلة لن تنتهي إلا بتفكيك المجتمع نفسه وذره مجددا إلى قبائلَ وأقوامٍ تتنازع في ساحات «الدولة» التي ستتحول بدورها إلى «دول» متنازعة تقضم بعضها بعضا كما حصل ويحصل في الصومال أو العراق أو أفغانستان.

إذا لابد من البحث عن حل آخر يبدأ أولا بتجاوز كلام المؤامرة، ويباشر ثانيا في قراءة عاقلة للإشكال المفارق. وإذا اعتبرنا ما يحصل مسألة عادية نستطيع أن نبدأ البحث عن حل عقلاني وواقعي، وهو حل مؤقت مثل أية معالجة لا تدوم إلى الأبد فهي ما إن تنتهي وظيفتها يعاد من جديد البحث عن حل لمأزق آخر.

المعالجة إذا ليست صعبة. فإذا كان الحل الأمني سيؤدي إلى حرب طويلة ضد المجتمع لن تنتهي إلا بتفككه، يبدو إذا الحل السلمي الجواب المنطقي لمعالجة المشكلة. فالحل السلمي هو في النهاية معالجة واعية لأزمة واقعية تجد جذورها في الحاضر الراهن.

تصحيح التحديث

أول هذه الحلول تصحيح التحديث. قام التحديث في البلدان العربية والإسلامية تاريخيا بقيادة الدولة. فالدولة كانت دائما متقدمة على المجتمع، وهي التي تخطط لاستيعاب الجديد وإعادة إنتاجه محليا في سياق مندمج مع تطور الجماعات الأهلية؛ لذلك كانت الدولة جزءا من البنية التحتية تتقدم فتدفع علاقات المجتمع إلى الأمام. استمر التجاذب التاريخي بين البنيتين يتوازن إلى مطلع القرن الماضي عندما بدأت المنطقة تشهد ما يشبه الانقلابات ضد السلطة أو على السلطان كما جرت ضد عبدالحميد الثاني. آنذاك كانت الساحة واحدة وما يحصل في رأس السلطة لابد له أن ينعكس في أطرافها ومحيطها. لاشك في أن السلطنة العثمانية شهدت انقلابات كثيرة، ولكن معظمها تم بالتفاهم مع السلطان وبواسطته. وأحيانا كان السلطان نفسه يقوم بالانقلاب ضد عوائقَ كان يرى أنها تعطل حركته وإصلاحاته، إلا أن انقلاب جمعية «الاتحاد والترقي» كان من نوع جديد. إنه أولا: انقلاب ضد السلطان نفسه، وثانيا: إنه انقلاب ضد السلطنة وشرعيتها التاريخية. باختصار لم يكن انقلاب «الاتحاد والترقي» مجرد انقلاب اجتماعي لتحديث السلطنة بل كان أول انقلاب قومي ضد تركيبة السلطنة التاريخية. ومنذ تلك اللحظة دخلت سياسة الانقلابات طرفا في لعبة التحديث. لم يعد التحديث حاجة تمليها سنّة التطور، بل تحول إلى أسلوب سياسته لتبرير الانقلاب نفسه. وبدأت منذ تلك المرحلة ما يمكن تسميته «انفصال الدولة عن المجتمع». فالدولة انتقلت من قوة تحتية دافعة للمجتمع إلى سلطة فوقية تحاول السيطرة عليه من طريق العنف والقمع. أدى هذا النوع من التحديث الفوقي القسري (الانقلابي) إلى انكفاء المجتمع على نفسه والبحث عن أسلوبه الخاص في استيعاب الحداثة والتحديث. وهو أمر أدى مع مرور الزمن إلى تعميق الهوّة بين مؤسسات الدولة الحديثة ومؤسسات المجتمع الأهلية فكل طرف له حداثته، فهناك حداثة النخبة المسيطرة وهناك حداثة المجتمع المهمش.

لجأت دولة النخبة الانقلابية إلى حل مشكلتها بزيادة رقابتها على المجتمع والقبض عليه من طريق تفكيك مؤسساته الأهلية. وبدلا من أن تحل النخبة الحاكمة مشكلتها، تضخمت الأزمة بعد أن أخذت تركز موازنتها على أجهزة الأمن وسيلة وحيدة لفرض الانضباط على المجتمع من طريق القوة. وشهدت المنطقة انقلاباتٍ وانقلاباتٍ. كل نخبة تنقلب على أخرى ثم تنقلب على نفسها، في وقت كان المجتمع يعيش مغيبا وأحيانا على هامش الصراع. قُمِعت السياسة في المجتمعات العربية وجُرِّد المجتمع من أدواته الأهلية التي يعبّر بها عن نفسه. وباتت السياسة مجرد احتراف عسكري أو حزبي تقوم به النخبة بالنيابة عن المجتمع وباسمه، على حين المجتمع كان يزداد غربة عن دولته (نخبته). ولكن قانون التاريخ أقوى من قانون القوة. فالمؤسسات التي قامت دولة النخبة بتركيبها بديلا عن مؤسسات الأهل تم استيعابها لاحقا من المجتمع الذي استخدم أجهزتها ليعيد إنتاج حاجاته الفعلية بعيدا عن وظائفها المرسومة. وأخذت مؤسسات الدولة مع تقدم الزمن تتحول إلى مؤسسات أهلية تخدم المجتمع لا النخبة. والمعركة التي نشهدها الآن في أكثر من بلد عربي هي معركة محاولة الدولة استرداد مؤسساتها وأجهزتها من المجتمع، أي أنها معركة إعادة مصادرة حرية المجتمع وطرد أهله من المؤسسات الرسمية والمدنية. ولاشك في أن هذه المعركة - إذا استمرت من دون ضوابطَ عقلية ووعي تاريخي - ستؤدي إلى نهاية مأسوية وستقود إلى فوضى شاملة تعبّر عن نفسها بتشظي المجتمع إلى أجسام متناحرة وتفكك الدولة إلى دويلات. وقبل أن نصل إلى تلك النهاية المظلمة لابد من تصحيح التحديث، وجعله التيار المشترك للدولة والجماعات الأهلية. وهنا نصل إلى الحل الثاني.

الاستفادة من الموروث

يقضي الحل الثاني باستفادة الدولة من القديم الموروث لتنظيم التحديث واستقراره على قواعدَ عادلةٍ ومتوازنةٍ. وأيضا لابد من استفادة المجتمع الأهلي من مؤسسات الدولة الحديثة واستخدامها لتنظيم التطوير في سياق تعايش سلمي بين قوة القديم والحاجة إلى الجديد. فالتحديث في النهاية حاجة تاريخية وليس أمرا حزبيا تفرضه نخبة انقلابية صادرت الشرعية السياسية، وتحاول مصادرة تفكير الناس وأسلوب حياتهم وعلاقاتهم. فالدولة بحاجة إلى الناس لاستكمال عملية التحديث، والتمدين أيضا بحاجة إلى ناسه مادة بشرية منتجة ودافعة إلى الأمام. والناس أيضا بحاجة إلى الجديد لتطوير شئون حياتهم ومعيشتهم.

المشكلة عندنا أن الدولة عمدت إلى تحويل التحديث إلى نوع من التسلط الفوقي، على حين هو أساسا عملية تاريخية عادية تطورية لابد للمجتمع أن يمر بها ليس مرة واحدة وإنما لمرات ومرات كلما قضت الحاجة بذلك. مشكلة دولة النخبة أنها تعتقد أن التحديث يحصل مرة واحدة وإلى الأبد، على حين هو حاجة دائمة يحصل باستمرار ويعبر الزمن من محطة إلى أخرى كعملية تطورية داخلية، ما إن ينتهي من دورة حتى تبدأ أخرى. وتعتقد دولة النخبة أن شرط نجاح التحديث هو أن يتم بالضد من المجتمع، على حين الواقع التاريخي يؤكد أن التحديث لا يتم إلا بواسطته. وما عدا ذلك فهو مجرد هدر الموازنات لبناء السجون وهي في النهاية مهما تضخم حجمها وأعدادها ليست كافية لاعتقال المجتمع وأسره. قد تنجح النخبة في تخويف المجتمع وإرهابه، ولكنها في النهاية لن تنجح في تنحيته عن صنع تاريخه. وهنا نصل إلى الحل الثالث.

الحرية

يقوم الحل الثالث على فكرة مثالية واحدة، وهي وقف تدخل الدولة في تفاصيل حياة الأهل وتخفيف قبضتها الحديد والحد من محاولات سيطرتها على المجتمع. فالنخبة تعتقد أنها باستخدام أسلوب القمع والملاحقة توحد الناس بإراتها الخاصة، على حين الحقيقة تكون كمن يزرع الريح ليحصد العاصفة. إن ترك الدولة هامشا للمجتمع يتحرك فيه ويتنفس من خلاله يريحها كثيرا ويعطيها الوقت الكافي للتفرغ لتنظيم شئون نفسها وإعادة بناء مؤسساتها بشكل عادل يحقق التوازن بين حاجاتها ووظائفها. فالدولة في النهاية وظائفُ وحاجاتٌ، وعندما تتجاوز حدودها وتعتدي على حاجات أهلها ووظائفهم تكون كمن يرسم عن عمد خطوط نهاياتها. فهي في الوقت الذي تعتقد أنها تقوم بتنظيم عملية دفاعية عن نفسها تكون كمن تسهل القيام بانقلاب على نفسها. فالخطر على الدولة في البلدان العربية ليس من المجتمعات بل من الدولة نفسها. فالمجتمعات لا تقود الانقلابات بل نخب الدولة.

إذا ما السبيل لمعالجة هذه الحلقة؟ الجواب السهل هو أن نقول: يجب البحث عن صيغة تعايش بين الدولة والمجتمع. ولكن كيف؟

إذا اعتبرنا أن بنية الدولة تتطور وبنى المجتمع تتطور لابد أن تكون الحاجة إلى التطور هي المنطقة المشتركة للطرفين. ولكن الحاجة ليست متطلبات اجتماعية ومادية فقط، بل أيضا لغة مشتركة وما تعنيه اللغة من وعي ومفردات ومصطلحات. فاللغة المطلوبة هي تحويل الحاجة إلى صيغة تعايش تقوم على مفهوم تاريخي يؤسس منطقة محايدة تفصل بين مهمات الدولة ووظائفها وحاجات المجتمع وأدواته الأهلية. وحدود الفصل المقترحة تتمثل في ترك المؤسسات المدنية تنمو من جهة الدولة مقابل ترك الهيئات الأهلية تنمو من جهة المجتمع. وبمرور الوقت تتحول منطقة الفصل (صيغة التعايش) إلى ساحة تفاعل بين مهمات الدولة (المركزية) وحاجات المجتمع (المركبة لا مركزيا).

حتى الآن أجوبتنا نظرية وليست عملية. فالتطبيق بحاجة إلى قيادة واعية تلجأ إلى الحلول العقلانية لفك الاشتباك بين طرفين. ومثل تلك القيادة لا تُخْتَرع في المختبرات الطبية، بل هي بدورها نتاج تطور تاريخي تكتشف - بسبب تلك الحاجة - ضرورة التوفيق بين المؤسسات المدنية والهيئات الأهلية فتقوم بتركيب عاقل ينظم المصالح وفق قسمة عادلة. وشروط هذا الحل التوفيقي يرتبط بمدى قابلية الدولة على القيام بمهمتها التاريخية. فالدولة هي صاحبة المصلحة في قيادة التحول نحو التحديث والسلم الاجتماعي في آن.

نعود مرة أخرى إلى السؤال. لماذا تلجأ دولنا (نخبنا) إلى الحرب كما ذهب وزير الداخلية في كلامه وتفضل قتال المجتمع وتميل إلى القمع لا السلم في سياق محاولاتها معالجة معضلات تاريخية شديدة التعقيد؟

يقودنا الجواب إلى تحليل آخر يقرأ بنية الدولة (الدول) العربية المعاصرة التي تقودها نخب انقلابية غير منتخبة من المجتمع، أو نخب تم اختيارها وتمتاز بعقلية انقلابية لا تنسجم مع منطق التطور التاريخي ولا ترى الأمور إلا من منظار الحسم الدموي لا التسوية التاريخية. فالتطور بالنسبة إليها مؤامرة تشبه تلك التي تخيلها وزير الداخلية في شرحه حداثة الجماعات الأصولية. وبما أن التطور عند هذه النخبة المختارة أو التي اختارت نفسها لتنفيذ مهمات تعتقد أنها تارخية هو نوع من المؤامرة فإذا لابد أن تبدو لها معضلات المجتمع كأنها من نتاج الماضي لا ردة فعل على سياسات الحاضر. وهكذا تعلن «النخبة» الحرب على الماضي وتستمر الدولة في سياسات الحاضر، وهو أمر نشهده ونلاحظه في أكثر من مكان عربي، وكلام الوزير عن ملابس الجماعات الإسلامية يمثّل عينة عن قراءة بائسة ربما لا نفتري على الحقيقة إذا قلنا: إن نخبنا الانقلابية إذا واصلت سياستها الراهنة إلى فترة طويلة فستدفع المجتمع والدولة معا إلى مرحلة التفكك الشامل في وقت تظن أنها تقوم بمشروع إنقاذي وتوحيدي.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1925 - الخميس 13 ديسمبر 2007م الموافق 03 ذي الحجة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً