لم تورد كتب السياسة الشرعية ولا كتب الفقه معنى محدّدا للولاية العامة، على رغم تناولها للولايات عامّها وخاصّها، وقد عرّفتها بعض الكتابات الحديثة بأنها: «سلطة تعطيها الشريعة لشخص أهل لها تجعله قادرا على إنشاء العقود والتصرفات، نافذة من غير توقّف على إجازة أحد «، في حين رأتْ كتابات أُخرى أنها: «السلطة الملزِمة في شأن من شئون الجماعة كولاية سَنّ القوانين والفصل في الخصومات وتنفيذ الأحكام والهيمنة على القائمين بذلك»، وهو ما يميزها عن الولاية الخاصة التي هي: «سلطة يملك بها صاحبها التصرّف في شأن من الشئون الخاصة بغيره كالولاية على الصغار والأموال والأوقاف وغيرها».
ويختلف مفهوم الولاية عن مفهوم «الوظيفة»؛ إذ إن الولاية سلطة شرعية تستمدّ قوّتها من الشرع، ولا يتدخّل في زوالها هوى أو غرض، بل يحدّدها الشرع بحدود واضحة وما اختُلِفَ فيه يُرَدّ لله ورسوله، أما الوظيفة فتستمد قوّتها من الدولة ذات السيادة العامة، وعليه فإن متولّيها مقيّد بالتزام ما تضعه له الدولة من أُطُر وقوانين، ويخضع زوالها لهذه القوانين أو للمصلحة العامة أو لهوى موليها.
سمات الولايات العامة والولايات العامة كالولاية الكبرى (الخلافة) والقضاء والحسبة وولاية الشورى وغيرها تدخل جميعا في الواجبات الكفائية، وتتّسم بالسِّمات الاتية:
(1) أمانة ومسئولية: إنها ليست منصبا يُسعى إليه، بل هي أمانة ومسئولية كما قال رسول الله (ص) لأحد صحابته: «لا تَسأل الإمارة فإنك إن أُوتِيتَها عن مسألة وكلت إليها، وإنْ أُوتيتها من غير مسألة أُعِنْتَ عليها»، كما قال (ص) لأبي ذر حين قال له: «يا رسولَ الله ألا تستعملني؟»، فضرب بيده على منكبيه، ثم قال: «يا أبا ذر... إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا مَن أَخَذَها بحقّها وأدّى الذي عليه فيها».
(2) مرتبطة بالأهلية الخاصة: إن الولاية يشترط فيها - بحكم كونها من الواجبات الكفائية - الأهلية الخاصة كما سبق توضيحها في أنواع الأهلية، والتي وصفها ابن تيمية بأنها تقوم على قاعدتين: القوة، والأمانة، «فالقوة في كل ولاية بحسبها»، والقوة في الحكم بين الناس ترجع إلى العلم بالعدل الذي عليه الكتاب والسنُّة، وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام، والأمانة ترجع إلى خشية الله، فإذا كانت الحاجة في الولاية إلى الأمانة أشدّ قُدِّم الأمين، وإن كانت الحاجة للقوة والأمانة جمع بين المصلحتين، وهكذا في سائر الولايات إذا لم تتم برجل واحد جمع بين عدد، فلا بد من ترجيح الأصل أو تعدد المُولى إذا لم تقع الكفائية بواحد تام. والمهم في هذا الباب معرفة الأصلح، وذلك إنما يتم بمعرفة مقصود الولاية ومعرفة طريق المقصود، فإن عرفت المقاصد والوسائل تمّ الأمر فالأمر منوط بالأهلية، لذا فإنه لا يرتبط برغبة الفرد بل بقدرته، ولا يولى من سأله أو حرص عليه.
(3) ملتزمة بالشريعة وأحكامها: إن أولياء الأمور ملزمون بالشريعة وأحكامها، ويجب صدور القرارات التي تتصل بأداء النظام العام وقواعده والمعاملات المختلفة من خلال آليات الشورى، وترتبط طاعتهم بمقدار التزامهم بالشرع؛ إذ لا طاعة في معصية الله، «إنّما الطاعةُ في المعروف». و»إذا قضى الحاكمُ بجورٍ أو بخلافِ أهل العلم فهو ردّ».
الخلاف بشأن أهلية المرأة
للولايات العامة وأدلته الشرعية
وقد اختلفت الآراء بشأن أهلية المرأة للولايات العامة، فذهب فريق إلى عدم أهليتها لتولّي الولايات العامة كافة، وأجاز فريق ثـانٍ تـوليها الولايات العامة مـا عـدا الخلافـة، في حين قَصَرَ فريق ثالث أهليتها على ولاية القضاء فيما تشهد فيه على مذهبهم. وتبيّن قراءة الكتابات المختلفة في هذا الصدد أن الخلاف يدور حول مجموعة من الأدلة الشرعية هي:
أولا: النص القرآني: ثار الخلاف بشأن الآية الكريمة: «الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ» (النساء: 34)، فرأى فريق أنها دليل على أن القوامة محصورة في الرجال من دون النساء، لما للرجال من فضل التدبير والرأي وزيادة القوة في النفس والطبع، ولغلبة اللين والضعف على النساء. وما دام الرجل قوّاما على المرأة فلا يجوز أن تتولى ولاية عامة تجعلها صاحبة سلطة وقوامة عليه أو حتى مشاركة له في القوامة. فالنص صريح - في رأيهم - بأن القوامة للرجال من دون النساء، ويرون أنه حتى لو تمّ التسليم جدلا بأن الآية خاصة بالمسئولية في الأسْرة وليست عامة فالحجّة تبقى قائمة، فإذا كانت المرأة عاجزة عن إدارة أُسرتها فمن باب أولى أن تكون عاجزة عن إدارة شئون الناس والفصل في أمورهم.
وقد ذهب فريق آخر إلى أن العلاقة بين الرجال والنساء في الأمور العامة هي علاقة «ولاية»، وأن ذكر الدرجة والقوامة في القرآن لم يأتِ إلا في سياق الحديث عن الحياة الزوجية التي يلزم في إدارتها انتهاء سُلم المسئولية للرجل ، مع ملاحظة أن صرفه عن النساء في الأسرة ليس دليل عدم أهليّة أو عجز بل هو تقديم للأصلح، فإن غاب الرجل فالمرأة تتولّى أمور بيتها وتصبح مسئولة ووصية على شئونه وشئون أولادها، ولا مجال هنا لتعدية الحكم إلى الولايات العامة التي مناطها الأهلية الخاصة بتعريفها السالف، وهو الرأي الذي يتّسق مع الإطار المعرفي ومدخل الاستخلاف الذي يشمل النساء والرجال ويتحمل أمانته المؤمنون والمؤمنات في ظل علاقة الولاية مصداقا لقول الله تعالى: «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ» (التوبة: 71).
يتبع
* كاتبة اسلامية مصرية
العدد 1925 - الخميس 13 ديسمبر 2007م الموافق 03 ذي الحجة 1428هـ