العدد 1924 - الأربعاء 12 ديسمبر 2007م الموافق 02 ذي الحجة 1428هـ

في ذكرى غلوم والعويناتي

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

في أيام الشتاء الباردة من العام 1975، كانت حافلة المدرسة تنقل طلاب البلاد القديم وما جاورها من أمام مدرسة الخميس الاعدادية إلى مدرسة النعيم الثانوية. وفي كل صباح، كانوا يشاهدون في المحطة التالية شابا طويلا نحيفا ملتحيا، أو هكذا بدا لأحدهم، يتأبّط كتبا وأوراقا.

من شاهده من نافذة الحافلة، كان يقارن بين صورته على الواقع وبين الصورة التي كانت تنشرها مجلة «المواقف» الاسبوعية، اذ كان يعمل مشرفا على الصفحة الأدبية. في نهاية العام التالي، اختفى ذلك الشاب نهائيا من الحياة، تاركا وراءه ديوانا صغيرا أسماه «إليك أيها الوطن... إليك أيتها الحبيبة»، وقصة شجية عن بشاعة ساعة الرحيل نزفا تحت سياط الجلادين.

هذا الشاعر العاشق، سعيد العويناتي، عاد مرة أخرى بعد واحد وثلاثين عاما من الغياب، ليكون أحد نجمَيْ الحفل الذي استضافته جمعية «وعد» الاسبوع الماضي، في لفتة وفاءٍ من اثنتين من الجمعيات السياسية الوطنية، لاثنين من كوادرها التي كانت تحلم بغدٍ أفضل لهذا الوطن.

الاحتفالية كانت إنعاشا لذاكرة الوطن، إذ عزف الصغار بعض الأناشيد التي يتردّد صداها من عهود الحلم الجميل:

طريقنا أنت تدري

شوكٌ... ووردٌ على جانبيه

لكننا سنسيرُ... إلى الأمامِ سنسيرُ

سنمضي سنمضي... إلى ما نريدْ

سنمضي لنبني أوال الجديد ْ

وطنٌ حرٌ ... وشعبٌ سعيد

أما النجم الثاني فهو محمد غلوم، الذي عاد بطلَ فيلمٍ توثيقي، شارك عددٌ من زملائه ومعاصريه في تقديم شهاداتهم على العصر، الذي كان يدخل فيه أحدهم المعتقل، ويخرج بعد أيامٍ جثة هامدة، تُنزَل في الظلام إلى القبر، ويستدعى أبو الضحية ليلقي النظرة الأخيرة على فلذة كبده مع تهديدٍ بالسكوت.

في الفيلم، تحدّث بعض زملاء محمد عنه كما عرفوه في الحياة، شابا حركيا نشيطا في العمل الطلابي، أمينا ومتفانيا في عمله، وحريصا على إتقانه. وبعضهم تكلّم عمّا جرى على الدفعة الأولى من ضحايا قانون «أمن الدولة»، من المعتقلين السياسيين. واتفق عددٌ منهم على أن استشهاد الشابين تسبّب في إرباكٍ لجهاز الأمن، أدى حينها إلى إيقاف وجبات التعذيب عن بقية المعتقلين.

تكلّمت أخته شيخة غلوم، التي كانت حينها (1976) قد تخرّجت توا من جامعة الكويت، ومازالت ذاكرتها تنبض بأدق التفاصيل، من أول اعتقال شقيقها الشاب الهادئ الخلوق بعد منتصف الليل، وقلبِ المنزلِ رأسا على عقب للتفتيش، حتى الاتصال المفاجئ بوالدها الذي استبشر خيرا بقرب الإفراج عن محمد، لكنه سرعان ما اكتشف ان الابن أصبح في عالمٍ آخر بعيدٍ... بعيد.

شيخة توقّفت عند تفاصيل تلك اللحظة الكئيبة، لحظة الكشف عن وجه أخيها ليتعرّف عليه الأب، وليقطع آخر خيوط الأمل باللقاء. مثل هذه التفاصيل لا تنسى، والذين يطالبون بالنسيان إنما يتجاهلون كل الجرائم والانتهاكات ضد إنسان هذا البلد المبتلى بعشق الحرية والكرامة والمساواة.

عائشة... الأخت الثانية الأصغر، تحدّثت عن عدم غياب أخيها لحظة من وجدان العائلة طوال ثلاثين عاما، وظلت تحيط ذكراه بالقدسية والفخر والبهاء. حتى طفلتها الصغيرة عندما طلبت معلّمتها الكتابة عن «شخص أثر فيك كثيرا»، كتبت عن خالها محمد... لأنه كان يحبّ الناس وضحّى من أجل الفقراء في هذا الوطن الحبيب.

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 1924 - الأربعاء 12 ديسمبر 2007م الموافق 02 ذي الحجة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً