«منظر حصار الوالد لم يكن طبيعيا، تحولت بني جمرة إلى معسكر حقيقي ودائم، وربما لأن المحاصر كان شخصا استثنائيا، لذلك فإن الحصار لم يقتصر عليه، وإنما شمل الناس... كل أهالي القرية يدخلون ويخرجون من مدخل واحد، وكانوا يعانون عند نقاط التفتيش»... هذا ما يرويه محمد حسين الجمري (نجل المرحوم الشيخ الجمري) عن ذكريات عائلة تحت الحصار.
تعرض المرحوم الشيخ عبدالأمير الجمري لثلاثة حصارات منزلية، هي الأولى من نوعها في تاريخ البحرين، وكانت عائلة الشيخ تعاني الأمرين من الحصارات المنزلية، وكان الشيخ الجمري يعتمد على ابنه محمد حسين كحلقة وصل أثناء الحصار الثالث الذي استمر من يوليو/ تموز 1999 إلى فبرير/ شباط 2001، وللتعرف على جانب من تلك الأجواء الفريدة من نوعها، كان لـ «الوسط» اللقاء التالي مع محمد حسين عبدالأمير الجمري:
* ما هي أكثر المحطات العصية على النسيان من ذاكرة الحصار الذي فرض على الشيخ الوالد؟
- إن أكثر فترة أتذكرها من الشيخ هي فترة الحصار الثالث التي بدأت في 1999 (اذ كان الحصار الأول بين 1 الى 14 ابريل/ نيسان 1995، والحصار الثاني في يناير/ كانون الثاني 1996)، وكنت أكثر قربا منه من أية فترة أخرى، لأنني كنت أسكن في البيت المقابل لمنزله، وكان الإجراء الذي يطبق عليه يشملني أيضا، وسبب آخر جعلني قريبا منه أنه لم يكن مسموحا له أن يخرج خارج المنزل إلا بإذن خاص من المخابرات، وكنت تحت ضغط لما كان يتضمن الأمر من تعقيدات شديدة، وقد ازداد الضغط في شهر يوليو/ تموز من العام 1999 بعد عملية الإفراج عن الشيخ وما صاحبها من ظروف وملابسات.
وأول يوم خرج الشيخ من السجن لم يكن هناك حصار على منزله، بل كان التلفزيون يعرض مرات عدة مشاهد الإفراج، ومع ذلك كانت الآلاف من الناس تنتظر قدوم الشيخ، بسبب تسرب الخبر، وعندما أفرجوا عنه نادوا أخي صادق لاصطحابه إلى البيت. ولم يكن الوالد يدري انه سيفرج عنه إلا في الساعة الثالثة ظهرا، وأصر أن يأتوا له بحلاق.
وكان الوضع طبيعيا في اليوم الأول، ففي ذلك اليوم كانت هناك شرطة ولكنها لم تكن تتدخل، ويبدو أنه لم يكن لديهم أوامر بالتدخل، وعلى رغم ما بث من لقطات في التلفزيون (في أخبار الساعة الثالثة عصرا) كانت الناس تندفع وكان الشرطة موجودين ولكن لم يمنعوا أحدا، وكان بعض الأقارب يسمح لهم بالدخول في اليوم الأول فقط.
أما في صبيحة اليوم الثاني كان هناك هدوء غريب، وحينما استيقظت توقعت أن اندفاع الحشود سيكون كما كان في اليوم الأول، ولكنني استيقظت على هدوء تام، ونزلت البيت، وكنت ساكنا في الطابق الثاني... نزلت فسألت الوالدة، وكان الوالد جالسا على الإفطار في الساعة السابعة صباحا، والشيخ رد علي: «الظاهر انك استقيقطت متأخرا»، وقال لي: «روح الشغل».
لم أكن أعلم ماذا جرى بالضبط، ولكن فتحت الباب وتفاجأت بقوات مكافحة الشغب، وكانت الشرطة تحيط بالقرية من كل الجهات، ورجعت للوالد واخبرني انه في إقامة جبرية، وقال: «لست مستغربا مما حدث»، وهو توقع الإقامة الجبرية، لأنه مر بها مرتين سابقا.
وعندما خرجت وجدت مداخل القرية كلها مغلقة عدا المدخل الرئيسي القديم بمحاذاة المقبرة، وتصور أن كل قاطني قرية بني جمرة يدخلون من باب واحد، بل يجب أن يمروا على منزلنا أيضا والنقاط الأمنية كانت منتشرة بكثافة، وهذا الحال استمر لمدة أشهر، وكل الناس تدخل من مدخل واحد فقط وتخرج من المدخل ذاته، وهذا القرار لم يستثنِ أحدا بما فيهم الأجانب، وسبب هذا القرار ازدحامات كبيرة عند مدخل بني جمرة، وكل شخص مجبور على كشف هويته من خلال اطلاعهم على بطاقته السكانية، وإذا لم يكن من المنطقة يوجه له السؤال مباشرة «أنت ذاهب إلى الشيخ؟».
في البداية الحصار لم يكن شديدا، وكانوا يختارون بعض الشخصيات البعيدة عن الجانب السياسي وبعض الأقارب ويمنحونهم وقتا محددا لزيارة الشيخ، وكانت الناس تندفع وحدثت بعض المشادات بسبب الانتقائية في الاختيار.
بعد شهر واحد تحول الحصار إلى المنطقة الشرقية من بني جمرة حيث سكن الوالد، وهذا الحصار يختلف عن كل الحصارات السابقة، لأنهم في تلك الحصارات كانوا يمنعون كل صغيرة وكبيرة ويحظرون أي نوع من الحياة في المنطقة، ففي الحصار الأول في العام 1995 لم يسمح لنا بوجود أية وسيلة اتصال يستخدمها الشيخ، واخذوا التلفزيونات والراديو وحتى الهاتف.
كان الشيخ منقطعا عن العالم وممنوعا عليه حتى الخروج من باب منزله، والحصار الثاني كان في يناير/ كانون الثاني 1996 وكان مشابها للحصار الأول وكان حصارا محكما تمهيدا للاعتقال الثاني الذي استمر لأربع سنوات ونصف، والحصار الثالث تميز بالتشديد على الداخل والخارج لكن الحياة في المنطقة لم تتوقف كما كان في الحصارين السابقين، وفي المرة الثالثة سمحوا للوالد ببعض الزيارات ولكن بإذن خاص ومواكبة أمنية.
* ومن كان حلقة الوصل مع هذه القوات؟
- كنت حلقة الوصل بالنسبة الى من هم داخل الحصار، كما كان لأخي صادق دور في الاتصال بجوانب اخرى، اما أنا فكنت حلقة الوصل بين المنزل المحاصر وخارجه. حينها تحدثت مع الشخص المسئول عن حصار المنزل لتخفيف التضييق على الوالد والعائلة، لأنهم كانوا يريدون معرفة التفاصيل في كل حركة قبل السماح لنا بأي شيء، والوالد كان يرفض أخذ الإذن وكان يطلب فقط الإخطار «خبّرهم فقط»، ولكنني كنت مضطرا للقيام بأخذ الإذن لأنهم فرضوا هذا الإجراء، وفي بعض الأحيان يمنع طلب الوالد وفي بعض الأحيان يسمح له بشروط ويطلبون بعض التفاصيل مع المواكبة الأمنية المشددة. وهم اعتبروني حلقة الوصل أيضا، لأن أخي صادق كان يسكن في منطقة أخرى، فكان التنسيق اليومي معي، لأنني موجود باستمرار.
* وكيف كانت طريقة تعاملهم معك ومع العائلة؟
- من نتعامل معهم كانوا بحرينيين من جهاز أمن الدولة، ومعاملتهم تتفاوت بين شخص وآخر، ولكن في الحصار الثالث أصبحت لدينا خبرة في طريقة التعامل معهم، وأصبحت لدينا معرفة شخصية بهم من خلال زياراتنا المتكررة إلى أخي محمد جميل وعبدالجليل خليل (زوج شقيقتي) في السجن، لذلك كانوا يعرفونني جيدا، لأنني كنت في الأسبوع أذهب إلى وزارة الداخلية مرتين، وهذا الوضع استمر لأكثر من عشر سنوات هي فترة اعتقال محمد جميل وعبدالجليل (من العام 1988 حتى 1998).
* وهل تكونت لديك صداقات مع بعض قوات أمن الدولة؟
- من الصعوبة أن تتكون بيننا صداقات، لأن في النهاية إذا نظرنا إلى الحقيقة المرة، فإنهم السجانون ونحن المسجونون، ولكن نحن ندرك في نهاية المطاف أن هؤلاء ينفذون أوامر فقط، وأستطيع أن اقول انه كانت هناك ألفة معهم، لأنهم موجودون معنا على مدار الساعة إلى درجة أننا أصبحنا نعرف أسماء كثير من قوات مكافحة الشغب، وعلاقاتي والعائلة كانت مركبة مع السجن.
وفي كل تلك الفترات كان بيت الوالد مركزا، وتعرفنا على مجموعات هائلة من البشر من مناطق مختلفة، وهذه قد تكون من «نعم السجن»، وكان هؤلاء الناس يأتون لأسباب مختلفة، وخصوصا في منتصف عقدي الثمانينات والتسعينات عندما كان الشيخ الجمري من القلة الذين كانوا يتحدثون عن القضايا المطلبية وتحديدا ملف المعتقلين، ومجلس الوالد كان من المجالس القليلة المفتوحة على مدار السنة على رغم المخاطر، ومهما يكن السجين المفرج عنه في تلك القضايا يقوم الوالد بزيارته، أو يرسل له مساعدة.
وضع الوالد الاجتماعي متميز كثيرا، ولديه معارف في كل البحرين ومن مختلف المستويات، وخصوصا الطبقات المحرومة (عامة الشعب)، والوالد كان يحاول توفير مرتبات شهرية لهم لتلبية احتياجاتهم قدر الإمكان، وكان الوالد يسعى في تزوجيهم، وأستطيع أن أقول إن كل معتقل أصبحت لديه عضوية في هذا المجلس، انه مجلس للمحرومين ومجلس المستعدين للتضحية باستمرار!
وبعد أشهر معينة صار تشديد أكبر للحصار ومنعت الزيارات للبيت، وبسبب رفض الوالد بعض العروض من السلطة كان الجواب تشديد الحصار أكثر فأكثر، واتخذ هذا الحصار صورا مختلفة مثل منع الزيارات أو التشدد في السماح له من الخروج من البيت، وأصبحت زياراته قليلة، وكان الناس يلتقون به من خلال مراجعته للعيادات والمستشفيات، وكان مجرد خروجه لحاجات ضرورية يسبب إرباكا واستنفارا لقوى الأمن بسبب التشديد، وكان الناس يتحملون الأذى في سبيل رؤية الشيخ، وفي بعض الأحيان تغض القوى الأمنية الطرف.
* كيف كانت طريقة تعاملهم مع الشيخ وكيف كان الشيخ يتعامل معهم؟
- جميع رجال أمن الدولة يعرفون الوالد بسبب معاملتهم معه في السجن، هم كأشخاص والبحرينيون وخصوصا كانوا يتحدثون مع الشيخ بأدب ويحاولون تجنب ما يثير غضبه، ويبدو أنه كانت لديهم أوامر بعدم الاحتكاك المباشر مع الشيخ، ولكن في بعض الحالات حدث بعض الاحتكاك.
والوالد كانت أخلاقه عالية معهم، وكان يتعامل معهم بطريقة إنسانية، وبعضهم يخجلون في التعامل مع الشيخ، وأتذكر حادثة مازالت عالقة في ذهني، فبعد تشديد الحصار على الشيخ منعت عليه الزيارات ولكن سمح له أن يخرج بالسيارة للتجول في الليل بمواكبة أمنية، وفي إحدى الليالي ذهبنا إلى المنطقة الغربية ومنها دخلنا مدينة حمد، وقال لي الوالد «أنا فيني زكام». دخلنا سوق واقف وكان الوقت متأخرا وكانت خلفنا سيارتان تابعتان لقوى المخابرات(...) وقفنا عند صاحب العصير، وعطيت المحل الطلب، والوالد طلب من الموظف الهندي أن يذهب إلى سيارتي المخابرات ويسألهم ما يطلبون، وهم طلبوا، وبعضهم تفاجأوا أن الشيخ دفع عنهم، وبعد رجوعنا البيت جاء اثنان منهم وقدما الشكر إلى الشيخ.
كان الوالد يصلي في جامع الإمام زين العابدين(ع) وتحول الجامع إلى مصلى للشيخ ومحمد جميل وأنا بالإضافة الى قيّم الجامع وهو رجل كبير في السن، وكانوا يمنعون أحدا من دخول الجامع، ولهذا السبب كان قيّم المسجد مصدرا مهما، لأنه يرى الشيخ مرتين في اليوم.
وفي أحد أيام الجمعة جاء أحد من المخابرات فسلم على الوالد «اشلونك أبو جميل؟»، وطلب منه أن يتغدى معنا، في حين كان يطبق الحصار، وبعد أسبوع فعلا جاء إلى البيت مع صديقه، وقلت للشيخ «جو الضيوف!»، فقال: «كنت جادا»، والوالدة جهزت الغداء لهم، وسمحوا له في البداية أن يلبي بعض العزائم، وكانوا في سياراتهم وأنا مع الوالد، وأصحاب البيوت كانوا يضيفونهم على شرف الشيخ أيضا.
* ولكن ألم تشعر أن بعضهم كان متعاطفا مع الشيخ أو القضية المطلبية عموما؟
- هؤلاء لم تكن ثقافتهم السياسية عالية، وكثير منهم كانوا يتعاطفون مع الوالد بوصفه رجل دين أو رمز اجتماعي، وكانوا يحترمون الوالد، ويبدي بعضهم الخجل من محاصرته، ولكن في النهاية نحن كنا نعلم أن هؤلاء موظفون وليسوا أصحاب قرار.
* وما هي أكثر لحظات الحصار شدة بالنسبة الى الشيخ؟
- إن أصعب الفترات التي تألم فيها الشيخ الجمري نفسيا بصورة كبيرة هي فترات المناسبات مثل مواليد ووفيات أهل البيت(ع)، وكان الشيخ يذهب إلى السطح، لأن البيت يقع بين بني جمرة والدراز والمرخ، ويجلس على السطح ويستمع للقراءة الحسينية، وحاولنا أن نجري له ترتيبا ليخرج في موسم عاشوراء فقط، وفي البداية سمحوا له بزيارة مكان واحد، ولكن حدثت مشكلة في هذا المكان وتجنب الوالد الذهاب له مرة أخرى وطلب تغيير المأتم إلا أن الشرطة رفضت طلب الوالد، والنتيجة أنه قضى شهر محرم في البيت وكان يذهب للسطح ليستمع إلى أصوات قراءات حسينية متداخلة.
والشيخ كان يتألم كثيرا في شهر محرم، ويقول لمحاصريه: «حياتي كلها عاشوراء، وأنا أساسا خطيب حسيني منذ أن كان عمري 12 سنة»، وكانت هذه القضية أصعب مسألة، وحتى الوالدة قللت من طلعاتها لمواساة الوالد، لأن ارتباطه بقضية الحسين(ع) كان يفوق التصور، ودائما ما كان يقول للقوات المحتشدة والمحيطة بمنزله المحاصر: «أنا رجل منبر قبل أي شيء آخر».
وفي فترة الحصار كانت للشيخ فرصة ذهبية للكتابة، ومن الأشياء التي مرت بها هي حادث سقوط طائرة طيران الخليج، وكان يتابع التلفزيون بشكل مباشر، وطلب منا أن نخبر الشرطة انه يرغب في تعزية الناس، والشرطة سألوني «يعرف من فيهم؟»، أجبتهم «لا يعرف احدا»، فقال الوالد: هم كلهم يعرفوني. فهدأناه وقلنا له «إن الناس تقبل عذرك»، وفي النتيجة أرسل لعوائل الضحايا رسائل التعازي فقط.
* و كيف انعكست هذه الأجواء على العائلة؟
- نحن كعائلة مررنا بهذه التجربة وتحديدا تجربة السجن والزيارات واستدعاءات الوالد المتكررة، ولنا تاريخ طويل مع هذه القضايا، ولكن لا أحد يستطيع زيارتنا، والوالدة كانت أكثر شخص يقف مع الوالد وكأن فيها مواصفات خاصة، وهي ذات بأس وقوة، وكانت بالنسبة إليه كل شيء في حياته، كانت له أكثر من زوجة، وكانت بمثابة الشريك، وبالنسبة إلى الجو العائلي، كان يحب الأطفال وجو المرح والمزاح مع الجميع، وكأنه لا يوجد حصار، فنفسيته مرتفعة في أحيان كثيرة. ومواقف الوالد كانت تتخذ من وحي دائرة المشورة الواسعة جدا، وكان الوالد يسألنا جميعا، ولم يكن متفردا بالقرار، وهذا ما يميزه.
* ما هي أكثر المحطات التي أغضبت الوالد في فترات الحصار المتعاقبة؟
- مازلت أذكر أنه حدثت معركة كبيرة بين الوالد وقوات الأمن، ولم يكن الوالد يصلي الفجر في الجامع لضمان عدم الاحتكاك مع قوات الحصار، وكانت فرصة للجيران ليصلوا في الجامع، وكان المؤذن شخصا آخر، وكان الوالد مسرورا للسماح لهم بالصلاة في الجامع، والمؤذن كان من احد الجيران، وفي ذات يوم منع من الأذان.
كنت اعرف القصة، ولكن الوالد بعد أيام لم يسمع الأذان وسألني عن القضية، والوالد كان يصر على معرفة السبب وأنا لم اخبره، وفي أحد الأيام خرج المغرب للصلاة وشاهد ابن المؤذن، وكان طفلا صغيرا وسلّم على الوالد، وقال له الوالد: «أبوك مريض؟»، فرد الولد «لا مو مريض»، فرد الشيخ:» ليش ما يأَذّن؟»، وأجاب الولد «الجماعة طردوه». وفي هذه اللحظة انفجرت أعصاب الشيخ بصورة رهيبة و قوى الأمن حاولوا يتلافون الموضوع، لكنه شعر أن الحصار تجاوز الحدود، وكان مستعدا ليفتح جبهة على هذا الموضوع، وتدخل محمد جميل وعبدالجليل (وكانا قد افرج عنهما في هذه الفترة) وهدّآ الوالد، وهذه الحادثة كانت بعد ثلاثة أشهر من إجراء عملية القلب للوالد أثناء الحصار، ولكنه انطلق إليهم مثل الأسد، كان يشعر أن هذا الجامع بالنسبة إليه أهم من أي شيء آخر، وموضوع التعدي على الدين كان يعتبره خطا أحمر.
* ما هي طريقة تعاملك مع الضباط في المعتقل؟ وهل حاولت تهريب بعض الرسائل له؟
- كانوا يحترمونا أكثر من بقية المعتقلين قليلا، ولكن التعامل كانت تحكمه المزاجية، وبالنسبة لنا كان من الصعوبة بمكان تهريب الرسائل، وفي الزيارة كان يتحدث الوالد عما يشاء، وكان يستفسر عن الناس لأن المخابرات كانت تقول له انهم نسوا الحركة المطلبية، وكان عدد من مسئولي الأمن موجودين في هذه الزيارات، والمعلومة التي كانت تصل للشيخ كانت مشوهة بسبب الظروف المشددة، وأية كلمة تحاسب عليها العائلة مثلما حدث مع أختي عفاف حينما دخلت في مشادة مع أحد ضباط المخابرات سيئ السمعة، والأخير منعها من الزيارات نهائيا، ولم ترَ الوالد إلا بعد الإفراج عنه.
* وفي فترة الحصار هل حدثت محاولات للقاء الوالد من الشخصيات القريبة من السلطة؟
- نعم، حدثت لقاءات بين فترة وأخرى بين بعض الشخصيات لمحاولة التهدئة والبحث عن مخرج، وكان من بينها عضو مجلس الشورى السابق المرحوم عبدالله العصفور، وكانت لديه معرفة قديمة مع الوالد، وكانت هذه المحاولة الجادة الوحيدة، وبعض الشخصيات سمح لها بالدخول، ولكن في النتيجة لم تسفر هذه الاتصالات عن بلورة مخرج محدد للازمة.
ولكن في آخر فترات الحصار كان هناك نوع من الانفتاح من جانب السلطة ولديها بعض المرونة في الخطاب الإعلامي وكذلك التعاطي بصورة أفضل مع الواقع السياسي في نهاية العام 2000، وهي الفترة التي سمح فيها بعودة السيدعبدالله الغريفي من الخارج، وفي هذه الفترة حدثت لقاءات مع عدد من الشخصيات الرسمية في يناير 2001. قبل هذه الحادثة توفت أخت الوالد الكبرى (زهرة)، والشيخ حضر الجنازة وكانت جنازة كبيرة لعلم الناس بأن الشيخ سيكون حاضرا، وفعلا كان حاضرا، ولكن بعد الجنازة جاء قرار بمنعه من حضور مجلس العزاء «الفاتحة»، ولكن الوالد أصر على الحضور، واعتبر أن هذه إهانة كبيرة بالنسبة إليه، وقال: «الناس تريد أن تعزيني»، وقال: «هل هؤلاء يدعوّن أن لديهم انفتاحا ويقومون بمثل هذا العمل اللاإنساني»، ووصلت هذه العبارة إلى مسامع السلطات العليا، والشخص ذاته الذي منع الشيخ اتصل وقال إن الشيخ مسموح له أن يحضر الفاتحة بأمر خاص، والسيدعبدالله الغريفي تواجد مع الوالد لثلاثة أيام، وكان تلاقيهما حدثا مميزا في ذلك الظرف وهما تداولا قضايا الشأن العام. وبعد هذه الفترة بدأ الحصار يتآكل، وكانت بعض الشخصيات تزور الوالد.
* ومن هي هذه الشخصيات؟
- المستشار السابق لسمو الأمير وزير التجارة والصناعة حاليا حسن فخرو، والوزير جواد العريض، وزيارات حسن فخرو تكررت أكثر من مرة، وجاء فخرو بحلم كبير كان يراود الوالد وهو الانفتاح السياسي.
* وماذا حدث في هذه اللقاءات؟ ولماذا هذان الشخصان بالذات؟
- بالنسبة لجواد العريض كان صاحب علاقة سابقة وممتدة منذ المجلس الوطني، وكان يتكلم بعموميات، ولم يكن يتحدث عن تفاصيل في الجلسات التي حضرتها على الأقل، ولكن حسن فخرو كان يجلس لعدة ساعات مع الشيخ، وتعددت اللقاءات معه، وكان الشيخ واثقا منه، وكان واضحا انه مفوضا من قبل سموالأمير (جلالة الملك)، وكان يتحدث عن تواريخ محددة لمراحل الانفراج، وكان الوالد يبدي ملاحظات، وكانوا يطلبون دعم الوالد للمشروع السياسي الجديد.
* وهل توسعت دائرة الحوارات مع آخرين؟
- نعم، وازدادت اللقاءات مع الديوان الأميري (سابقا) وكانت له زيارات لسموالأمير، وكان العفو في البداية لم يكن شاملا، والوالد طلب أن يكون العفو شاملا، والوالد كان يخبرنا أن هناك ارتياحا من هذه الزيارات، وان الناس تريد أن تخرج من الأزمة الأمنية وتنتقل الى مرحلة الحوار السياسي، وبعضها تسلسلت الحوادث المعروفة فترة الانفراجات العامة.
لا شك أن الحصار ترك أثرا نفسيا على بعض أفراد العائلة بل وانعكس على الجو الدراسي أيضا، لأن الظروف التي مرت بها العائلة لم تكن طبيعية، وكان المشهد الأساسي أن نرى جميعا الشرطة والشغب وسياراتهم، ولا شيء آخر.
* وبعد فك الحصار هل التقيت مع أولئك الذين كانوا يحاصرون منزل الشيخ؟
- نعم بالتأكيد، لأن «البحرين صغيرة» ولكن كنت أشاهدهم مصادفة، والعلاقة معهم عادية، وأشعر أن بعضهم غير موجود في جهاز الأمن الوطني حاليا، وحينما يشاهدونني يسألون عن بعض الأشخاص، ويستعرضون شريط الذكريات بصورة عابرة، وبعض الأشخاص يحاول يظهر أنه دوره كان مقتصرا على تنفيذ الأوامر.
وكيف تواجههم نفسيا؟
- أنا لا احمل ضغينة على أحد.
وما الذي لا تستطيع أن تنساه من تلك المشاهد؟
- منظر حصار الوالد كان غير طبيعي، وكنت أحاول أن أحفظ كرامة الوالد عند نقاط التفتيش والدخول والخروج، وكنت اطلب منهم ألا يسألني احد أمام الوالد!
العدد 1923 - الثلثاء 11 ديسمبر 2007م الموافق 01 ذي الحجة 1428هـ