عامٌ كاملٌ مضى على رحيله، ولكنها لاتزال تسمع صوته، وتحتفظ في قلبها بذكراه. كلما سمعت عن البرلمان، أو مطالب الشعب، أو مكتسبات العهد الإصلاحي، تذكرت رحلته الطويلة مع العذاب، وجرأته في الدفاع عن الناس، كلما سمعت عن شيخ يؤم الناس في صلاة هادئة رزينة خاشعة، التقطت أذناها ذبذبات بعيدة/ قريبة من قلبها لصوته الرخيم وحكمته البالغة. وكلما راقبت تشتت الناس وفرقتهم، ظهرت أمام عينيها صورته الحازمة الحنونة، وهو يحث كعادته على الوحدة ويأبى على الناس الفرقة.
رحل الشيخ الجمري عن هذه الدنيا منذ عام، ولكنه لايزال باقيا في دنياها، دنيا رفيقة دربه أم جميل... تلك الدنيا البسيطة العفوية، يطغى بحضوره على أبسط التفاصيل حتى الصغيرة منها في حياتها.
تستيقظ من النوم باكرا كعادتها كل يوم، فتتذكر كيف كانت تحييه صباحا: «صبحك الله بالخير أبا جميل» ، وكيف كان يرد عليها برقته المعتادة: «صبحك الله بالخير حبيبتي»... تفتح خزانة الملابس لتجد ملابسه مختلطة بملابسها، وعمامته ملفوفة كما تركها تماما. تجهز الفطور لأهل المنزل، فتسترجع اليوم الذي لم يتمكن أن ينهي فطوره فيه قبل اعتقاله. تتجه إلى المسجد القريب من منزلها، والذي لم يكن يتخلف عن أية صلاة فيه، فتتذكر إمامته الناسَ في الصلاة، وتتذكر أيامه الأخيرة التي قضاها في المنزل مريضا حين انقطعت عن زيارة المسجد لجلوسها بقربه.
ولكن أم جميل راضية بالقضاء، فوضت أمرها لله وهي تعرف أن بعد كل اجتماع فرقة، وأن هذا هو قدرها، فرحيل أبي جميل قدر لا يمكن أن تعترض عليه، وما مر عليه في حياته قدرٌ آخرُ لم يكن بالإمكان الاعتراض عليه أيضا، وبَيْد أنها تنظر بألم إلى شريط الذكريات، وتسترجع ما عاشه في حياته، وتتمنى لو لم يكن قد عانى كل تلك المعاناة، قبل أن يرحل.
قوية جلدة...
انعكس كل ما مرت به أم جميل من حوادث في حياتها على شخصيتها، فطبعها بطابع القوة والجلد. كل من حولها يعرف أنها صبورة، لا تنزعج أو تقلق بسرعة، فقد تعودت على الخوف والمعاناة حتى على... الموت، فصارت قادرة على مقاومة أي شيء كان، ولكن شيئا واحدا لم تتمكن من مقاومته أو الصمود في وجهه، كان ذاك لحظة اكتشفت رحيل رفيق دربها أبوجميل عنها. تقول: «في ذلك اليوم لم أستطع السيطرة على نفسي ولا أعرف لماذا. لم تكن هذه هي المرة الأولى التي أشاهد فيها الأموات، فقد تعودت هذه المواقف، ولكني عندما اكتشفت وفاته لم أتمكن من استجماع قوتي، انهرت وفقدت القدرة حتى على الرؤية، لم أتمكن حتى من رؤية الأرقام لكي أتصل بأبنائي بالهاتف. شعرت بنفسي سأموت، وابتعدت عن السرير لأجلس على الكرسي، كنت أحاول أن أجبر نفسي على أن أستفيق لأتصل، لم أكن أستوعب بعد أني غير قادرة على النظر. لم أبكِ، ولكني كنت أرتجف, عرفت أن ضغط دمي ارتفع كثيرا. أخذوني بعدها إلى المستشفى وحقنوني بإبرة مهدئ لم أتمكن معها من الحركة، كنت في منزل أختي عندما استيقظت فجرا بعد أن انتهى كل شيء، كان قد غسلوه ودفنوه، أما أنا فعدت إلى منزلي، وشعرت به خاليا موحشا من دون أبي جميل».
بعد الرحيل...
رحل الشيخ إذاَ، ولكنه لم يرحل من ذاكرة أم جميل، فذكراه حاضرة معها في كل لحظة، تقول: «لم أتمكن من احتمال الحزن في البداية بعد فراقه، وخصوصا أن شهر محرم الحرام جاء سريعا وكان يذكّرني به كثيرا، وكلما كنت أستمع إلى القراءة في شهر محرم، كنت أبكي أبا جميل، كنت عندما أشاهد مكتبه أو الجامع خاليا أتذكره، وكلما مررت بالقرب من خزانة الملابس، أخرجت أوراقه التي كان يحتفظ بها في جيوب ملابسه؛ لأقرأ بعضا من مذكراته وأتذكره. أما الناس فلم ينسوه أبدا، لايزالون يزورونني ويواسونني ويذكّروني به. أشعر بالفخر عندما يقولون إنهم لم يجدوا شبيها له أو بديلا بعد. وكأني به لامس حياتهم بقوة مثلما لامس حياتي فأصبح مسيطرا عليها حتى بعد رحيله، حتى صرت أقوم بما كنت أقوم به نفسه أيام كان بيننا، حتى في أدق تفاصيل يومي».
الحصار
تخيل نفسك تعيش محصورا بين جدران منزلك لفترة تتجاوز أسبوعين، يمنع عليك الخروج، أو الاطلاع على أي مما يجري خارج عالمك! تخيل أن تسحب منك جميع أجهزة التلفزيون والراديو التي تربطك بالعالم الخارجي، ويمنع عنك أن تلتقي أحدا أو تخرج من دائرة تلك الجدران المحيطة بك. ويمنع عنك أن تفعل ما تحب، أو تأكل ما تحب، أو تتصرف بما تحب. وفوق ذلك كله، لا تتمتع حتى بوحدتك في سجنك «المفتعل» ذاك، فأنت محمّل بمسئولية 18 فردا يشاركونك «سجنك» ذاك، أكثرهم من الأطفال.
تبدو تلك تجربة خيالية تصلح لفيلم سينمائي درامي، غير أن أم جميل عاشتها في واقع الأمر، وحُفِرت في ذاكرتها عميقا، حتى صار بدنها يقشعر كلما تذكرتها. تقول: «كانت مرحلة الحصار الذي فُرِض علينا في المنزل من أكثر المراحل التي مررت بها مرارة، كنا لوحدنا ليس معنا من يقوم بأمورنا غير ابني صادق، ولا أعرف لماذا تجمع أبنائي وأحفادي في ذلك اليوم في منزلنا بالمصادفة، كان بعضهم لا يداوم على الحضور، غير أنهم كانوا جميعا في المنزل عندما تعرضنا للهجوم المباغت الذي أعقبه الحصار. ولم يوافق الشرطة الذين حاصروا منزلنا على خروج أيٍّ من الموجودين في الداخل، حتى أختي التي كانت تزورنا بالمصادفة وتسكن قريبا من منزلنا. بقينا جميعا في المنزل نشعر بالاختناق، كنا 19 فردا غالبيتنا نساء وأطفال، كنا نشعر بأننا في سجن حقيقي، فقد كان الشرطة يحاصرون كل المداخل والمخارج حتى سطح المنزل، وأعتقد أن عددهم فاق الخمسين. وقمنا بتعليق البطانيات على النوافذ حتى نحافظ على خصوصيتنا على الأقل في قاعة المنزل، فغرق المنزل في الظلام. لم تكن لدينا أية وسيلة للتسلية وكانت السيطرة على الأطفال في هذا الوضع شبه مستحيلة، إذ لم تكن شقاوتهم محتملة. كان ابني صادق يضطر أحيانا لحمل بعض الأطفال لردهة باب المنزل علهم يهدأون، وكان هذا الأمر مدعاة لرفض الشرطة الذين انزعجوا من شقاوة الأطفال، فقد كان الصبية منهم يتسلقون سور المنزل ويقفزون خارجه، فكان الشرطة يركضون خلفهم ليمسكوا بهم، ويهددونهم بوضع الأصفاد في أيديهم، غير أن الوضع لم يكن يمكن السيطرة عليه في تلك الفترة».
19 مجرما
لم تكن مشكلة التعامل مع «شقاوة الأطفال» هي الوحيدة التي واجهت أهل المنزل المحاصر، فالأكل كان مشكلة أخرى أكثر أهمية، تقول أم جميل: «كانوا يحضرون الوجبات الثلاث لنا في صناديق كرتونية كتب عليها 19 مجرما. مازلت أتذكر هذه العبارة على الصندوق. ولكن الأدهى أننا لم نكن قادرين على تناول هذا الطعام، فقد كان فعلا أكل مساجين، وكان الأطفال بالذات معتادين على نمط معين من الأكل لم يكن بالإمكان إجبارهم على غيره».
تستطرد أم جميل مستذكرة: «حاولنا التفاوض مع الشرطة بهذا الشأن، أخبرناهم أننا سنعطيهم نقودا على أن يشتروا لنا قائمة بما نحتاج إليه حتى نطبخ بأنفسنا ما نريد، وبصعوبة قبلوا بالأمر في وقت لاحق».
بدائل عملية للاتصال بالخارج
كان الاتصال بالخارج والتعرف إلى ما يحدث فيه من أصعب ما واجه المحاصرين في ذاك المنزل، إذ لم يكن أيٌّ منهم يعرف ما يجري في الخارج. غير أن البدائل لهذا الاتصال كانت - على رغم صعوبة الظروف - موجودة ومنطقية.
تقول أم جميل: «جاءت إلى منزلنا إحدى الجارات يوما بحجة إحضارها بعض الحاجيات، كانت تخاطبهم بصوت عالٍ وتصرخ وكنا نصغي بدقة لما تقوله، كانت تخبرنا بما جرى للقرية أثناء حصارنا في تلك الأيام».
أما البديل «الأكثر فعالية» لسماع أخبار الدنيا فكان «اكتشافا» خطيرا لأهل المنزل، الذين عثروا على جهاز تلفزيون وراديو صغير قديم لم تنتبه الشرطة لوجوده فلم تصادره، وكان هذا الجهاز «كالكنز» على رغم صعوبة أن يلتقط أيا من الذبذبات الإذاعية والتلفزيونية. عن ذلك تحكي أم جميل بقولها: «كنا نبحث عن قناة لندن بفارغ الصبر، وبذلنا مجهودات كبيرة في محاولتنا تلك. كانت ابنتي عفاف تجلس وتغطي نفسها ببطانية ثقيلة حتى لا يخرج أي صوت من الجهاز، وتبدأ تحريك مؤشره علها تلتقط شيئا يعرّفها بما يجري في الخارج. وكان لها ما أرادت في أحد الأيام، إذ تمكنت من التقاط موجة إذاعة لندن، لتستمع إلى أخيها منصور يتحدث عن الوضع في البحرين، طارت هي من الفرحة وطرنا معها. وعلى رغم أنها لم تتمكن من التقاط الصوت بشكل واضح، غير أنها استطاعت سماع بعض الأخبار على الأقل»!
الابنة الوسطى منصورة كانت وسيلة اتصال أخرى للعائلة المحاصرة بالخارج من دون قصدها، إذ أصيبت بوعكة صحية؛ لأنها وضعت للتو مولودا جديدا بعملية قيصرية، هنا بدأت المفاوضات لإخراجها من ذلك الحصار بدعوى وضعها الصحي. تقول أم جميل: «تفاوض ابني صادق مع الشرطة كثيرا على إخراجها؛ نظرا إلى وضعها الصحي الحرج، فما كان منهم في البداية إلا أن اتجهوا إلى المستشفى ليحضروا الطبيبة لتكشف عليها. جاءتنا الطبيبة مرعوبة، ثم أعلنت أنها لا تستطيع أن تفعل شيئا في المنزل فمن الضروري نقلها إلى المستشفى. كان الأمر صعبا عليّ وعلى أبي جميل أن نراها خارجة وخلفها المدرعات وسيارات الشرطة من منزلنا حتى المستشفى. استطاعت منصورة الاتصال بخالتها في المستشفى لتحضر لها بعض الحاجيات، وبعد يومين تماثلت للشفاء فطلبت أن تعود إلى المنزل لتحضر بعض حاجياتها، وكان هدفها أن تطلعنا على بعض الأخبار من الخارج. جاءت على عجل وكان الشرطة خلفها، منعوني من الاقتراب منها غير أنني أصررت، احتضنتها فهمست في أذني ببعض المعلومات، قبل أن تخرج بسرعة».
لم تغفل أم جميل في حديثها الأعباء الكبيرة التي حملها ابنها محمد حسين الذي كان له دور كبير جدا في مساندتها طوال سنوات المحنة، إذ إنه كان في واجهة الحدث، وخصوصا أثناء المفاوضات مع نقاط التفتيش المحاصرة للمنزل، ناهيك عن أنه كان يتحمّل المشقة لرعاية شئون الأسرة في جميع الأوقات الحرجة، وخصوصا بعد اعتقال الشيخ الجمري، إذ كان يتابع بنفسه تنسيق المقابلات ويأخذ الأسرة إليها، ويتابع توصيل الأطفال إلى المدارس وغيرها من أعباء تحمّلها وحده فترة طويلة.
فكوا الحصار... وأخذوا الشيخ
بقي جميع سكان ذلك المنزل المحاصر في قلق مستمر، يتساءلون جميعهم إلى متى يستمر الأمر؟ وجاءت خيبة أملهم على دفعات. ففي أحد الأيام جاءهم قرار من الشرطة بإمكان خروج من يريد من المنزل المحاصر ما عدا الشيخ وزوجته. بدأ الجميع يجهز أغراضه للخروج، بل إن أخت أم جميل خرجت فعلا فأغراضها كانت جاهزة، غير أن الوقت لم يمهلهم حتى جاء أمر آخر يمنعهم من الخروج ويجبرهم على البقاء.
بعد أيام بدأت الهجمة على المنزل المحاصر صباحا، تستذكر أم جميل هذا اليوم بدقة كأنه البارحة: «كان أبوجميل قد استيقظ للتو ولم يكن قد تناول فطوره بعد. صنعت له كوبا من الشاي لم يستطع أن ينهيه، ثم أخذوه معهم، وفكوا عنا الحصار». تم تركيب التوصيلات الكهربائية للهاتف والتلفزيون، فسارعت أم جميل لتتصل بأختها وتقول وهي ترتجف: «فكوا عنا الحصار ولكنهم أخذوا أبا جميل». عن تلك اللحظات تقول: «بدأ الناس يتوافدون إلى منزلنا زرافاتٍ ووحدانَ قبل أن يخرج الشرطة من المنزل، ولكني أصبت بحالة غير طبيعية من الاكتئاب والحزن لم أعرف لها سببا، ربما كانت لأني كنت أحاول الصمود طوال الأيام الخمسة عشرة التي حوصرنا فيها لأشجع أبا جميل وأداريه وأرفه عن نفسيته، فجمعت حزن الدنيا كله في قلبي فخرج كله في تلك اللحظة. صرت أبكي بحرقة وأنا مرتجفة، تذكرت من سُجن من الأبناء ومن تشرد منهم، وما حل بأبي جميل، وأبكي... لم نعرف أين سجنوه إلى أن أطلق سراحه لاحقا».
قصص ما قبل الرحيل...
«تمنيت لو لم يعاني الشيخ ما عاناه قبل رحيله، فهل كان عليه أن يتكبد كل تلك المشقة قبل أن يرحل؟»... بحسرة قالتها أم جميل، مختلطة بنبرة الرضا بما حل من قضاء الله سبحانه وقدره. عادت أم جميل بذاكرتها إلى الوراء تستذكر تلك الأيام الباردة في ألمانيا، والتي حفرت عميقا في حياتها بالكامل، تقول: «كنت معه وحيدة في ألمانيا عندما ذهبنا للعلاج. كان يتحدث كثيرا في تلك الفترة، لم أجد أبا جميل محبا للحديث كتلك الأيام، كان يحدثني في موضوعات شتى، لم يبقِ موضوعا إلا وتحدث عنه، حتى ذكرياته في العراق وما شاهده أخذ حيزا كبيرا من أحاديثه، كنت أستغرب كيف احتفظ في ذاكرته بكل تلك الأحاديث، ولم أكن أعلم أنه كان يودع الدنيا بها».
ويفتح حديث ألمانيا شجونا لدى أم جميل فتقول: «مازلت أتذكر يوم عمليته في ألمانيا، استيقظ صباحا وكان يريد أن يقوم للصلاة، ولكن الممرضة دخلت لتعطيه الإبرة، رفض أن يأخذها لأنه يعرف أنه لن يتمكن من الصلاة بعدها، غير أني أجبرته على أخذها قائلة: إن الوقت لابد سيسعفه للصلاة قبل مفعول الإبرة. كان محقا... فقد تخدر تماما بعد الإبرة ولم يعد قادرا على الحركة، بدأ يلومني على إقناعي له بأخذ الإبرة، حاولت أن أطمأنه ودفعته للنوم حتى يستيقظ لاحقا للصلاة. ولكنه لم يستيقظ. حاولت إيقاظه ولكنه لم يتمكن من النهوض. مازلت أتذكر ذلك اليوم كثيرا... كان متعبا جدا ووجلا من العملية. قال لي: (انذري علي، أنا وجل جدا من العملية)، رددت عليه قائلة: (إن شاء الله). ارتدى ملابس العملية بعدها، وبالكاد صلى صلاة الصبح، ثم ساقوه لغرفة العمليات».
وحيدة، غريبة، خائفة وقلقة... هكذا كانت أم جميل طوال الساعات التي استغرقها مبضع الجراح في جسد أبي جميل داخل غرفة العمليات. تقول: «كنت أظن الأمر بسيطا، ولكن الوقت تأخر من دون أن يخبروني بالنتيجة، اتصلت بشخص عراقي في السفارة ليساعدني على التفاهم معهم فقد قلقت لتأخره في العملية، وبعد ساعات أخذني إليه، كان قد خرج من العملية ولكنه كان بحالة صعبة جدا. كانت الممرضة هناك تسألني هل اسمك: زهراء، فأجبتها بنعم، فقالت إنه كان ينادي باسمك طوال الوقت منذ أن استيقظ. جلست بقربه وكان يمسك يديّ طوال الوقت، لم يكن الأطباء يقبلون ببقائي هناك طويلا فكانوا يخرجونني عندما يغفو، ولا يلبث أن يستيقظ ليصرخ مناديا باسمي؛ لكي أبقى بقربه».
كانت أم جميل أول من تنبأ بالجلطة التي أصيب بها الشيخ الجمري، حتى قبل أن يتنبأ بها الأطباء، شعرت بأن حديثه غير واضح، فطلبت من ابنها الذي وصل إلى ألمانيا آنذاك أن يشرح الأمر للطبيب، واستجابة لذلك أخذه الأطباء لبعض الفحوصات والأشعة، التي تبيّنوا بعدها أنه أصيب بجلطة في النطق، عن تلك اللحظة تقول أم جميل: «كنت أنتظر الرد بفارغ الصبر، حتى جاءني طبيب عربي يخبرني أن ما توقعته صحيح، وأنه أصيب بجلطة في النطق. في تلك اللحظة حل بي اليأس تماما، وشعرت بأنه مفارق لا محالة، وأن المسألة هي مسألة وقت لا أكثر».
تحسن الشيخ الجمري بعد هذه العملية، وخصوصا أثناء فترة بقائه في المصحة في المملكة العربية السعودية، وتحسن أكثر عندما عاد أخيرا إلى منزله بعد رحلة عناء طويلة مع المرض، تقول أم جميل: «كان يجلس معنا ويتحدث، ويتابع ما نقرأه له من أدعية، كان قادرا على قراءة العناوين الكبيرة في الصحف، بل إنه التقى كثيرا من الوفود التي زارته في المنزل، وألقى خطبة لبعضها، حتى أصيب بجلطة أخرى».
مرة أخرى كانت أم جميل أول من تنبأ بما حل بشريك حياتها ورفيق دربها قبل أن يشخص الأطباء حالته، كان الجميع ينكر إمكان أن يصاب بجلطة أخرى، بَيْد أنها وحدها شعرت بما حل به، وأكد الطبيب ما قالته لاحقا، ليدخل الشيخ الجمري في مرحلة أصعب من المرض لم يتحسن منها حتى رحيله.
مشروعات لتخليد الذكرى
بناء قبر الشيخ الجمري، إنشاء مكتبة شاملة لمؤلفات الشيخ، جمع مؤلفاته ومحاضراته ومخطوطاته وأشعاره وطباعتها... كلها مشروعات فكر فيها كثيرون وعلى رأسهم أفراد عائلة الشيخ الجمري، واتخذت فيها بعض الخطوات، غير أنها لم تأخذ حيز التنفيذ بعدُ. ولعل أم جميل من أول الحريصين على تنفيذ هذه المشروعات لعلمها بأهميتها في تخليد ذكرى رفيق دربها الراحل. تقول: «مازلنا نحاول أن ننهي موضوع بناء قبر الشيخ بعد أن واجهتنا عدة مشكلات، في البداية قيل لنا إنه لا يجوز البناء على القبر؛ لأن الناس تأتي لتصلي في المقبرة، ثم أخذنا إجازة من مراجع الدين الذين أكدوا أن لا بأس في ذلك محددين المساحة الملائمة، ورفض البعض وضع منارات على القبر حتى لا يتحول إلى مزار، على حين قال البعض إن الجميع سيود بناء القبور القريبة لو قررنا البناء. لقد واجه هذا الموضوع عراقيلَ كثيرة ومعارضة من قِبل البعض ولا نعرف لماذا، ولكننا الآن في مرحلة وضع الخريطة النهائية وتجهيزها، وخصوصا أن الأمر أصبح بالفعل ملحا فقد اشتعلت الأقمشة القريبة من القبر مرتين من قبلُ؛ بسبب إشعال بعض الشموع؛ ولذلك أصبح البناء ضرورة ملحة».
ولا يقل مشروع مكتبة الشيخ أهمية عن موضوع بناء القبر، غير أنها تختلف قليلا في أن لا خطوات جادة تمت بشأنها فعلا، تقول أم جميل: «لاتزال مخطوطات الشيخ محفوظة، وقد أخذ كل ابن من أبناء الشيخ بعضا منها ليقوم كلٌّ منهم بجمعها، كما أخذ أحد طلبة الشيخ بعضا من دفاتره ليصفّ المحاضرات على جهاز الحاسوب، ولكني لم أجد شيئا قد تم جمعه حتى الآن من كل ذلك».
وتضيف «هناك الكثير من المخطوطات، إلى جانب الكتب والمؤلفات المعروفة له، والمحاضرات الصوتية والكتابية، وقد قمت بنقل مكتبته بكامل محتوياتها إلى داخل غرفته حتى أضمن ألا تتشتت محتوياتها. أعرف ضرورة جمع كتبه ومؤلفاته ومخطوطاته لتخليد ذكراه، ناهيك عن القصائد التي كان ينظمها في فترات مرضه والتي كنا ندونها له باستمرار. كل ذلك يحتاج فعلا إلى وقت لجمعه وترتيبه».
قائد ورمز
«أحببت دفاعه عن المستضعفين، ووقفت بجانبه في كل ذلك، ولكني تمنيت لو لم يتعذب كل هذا العذاب في حياته... أكثر ما يحزنني هو وفاته من دون أن يشاهد عصر الانفتاح السياسي في البحرين. تمنيت لو كان موجودا بيننا ليرى جني ثمر ما زرعه من بذور».
على رغم بساطة كلماتها وعفويتها، ضربت أم جميل على جروح حساسة تعاني منها الساحة السياسية بعد رحيل الشيخ الجمري، تقول: «لو كان الشيخ موجودا بيننا اليوم لكانت كثير من الأمور مختلفة، أشعر أن الناس ضائعون لا يجدون من يحسم لهم موقفهم، أشعر أن الشارع مشتت، وطالما أتذكر أبا جميل وأقول: إنه لو كان هنا لما رضي بهذا الوضع، تفرق الناس في كل شيء هذه الأيام حتى في تحديد هلال العيد، وكان أبوجميل يرفض أي تشتت أو فرقة. كان يصر على القيادات الدينية أن تحدد مواقفها وتتوحد بقرار تجمع عليه للناس، هذا ما فعله في قرار التصويت على ميثاق العمل الوطني، وهذا ما فعله في كثير من مواقفه. كثيرون يخبرونني بأنهم لم يجدوا بديلا للجمري بعد رحيله، وأن لا رمز في الساحة يمكن أن يحل محله، وأعرف أنهم صائبون، أعرفه لأني أعرف الشيخ الجمري تماما، أعرف جرأته وشجاعته، وأعرف أنه لم يكن يستطيع أن يمسك لسانه عن قول الحق. لطالما أوصيته أن يمسك لسانه في خطبه، ولكنه كان يرفض تحذيري، كنت أطلب أن أقرأ خطبه قبل أن يلقيها، فيعطيني الورقة التي لا تحوي على كل شيء سيقوله، وكنت أعرف أنه لم يلتزم قط ما كتبه في الورقة، وأن حماسة المنبر تأخذ بلسانه الى الموضوعات الحساسة، لسانه الذي جرّ عليه كل ما عاناه من عذابات».
هل تعبت معه يا أم جميل؟ تجيب: «كنت أشعر بأن واجبي أن أقف إلى جانبه، وكنت أقدّر كل ما يقوم به من أجل الناس. ولذلك كنت غالبا ما أصر على البقاء معه وأرفض السفر على رغم أنه كان يدفعني إليه دفعا. كنت أشعر بأنه يقوم بدور لا يمكن أن يقوم به غيره. ولكنه رحل الآن وتركني... ولا شك في أنه ارتاح من أضداده، حتى من أقرب الأقربين».
خاتمة
عامٌ كاملٌ مضى على رحيل الشيخ الجمري، والساحة السياسية تضج بحوادثَ جسام، والتغيير الحاصل في تركيبة المجتمع فكريا وسياسيا ودينيا لا يستهان به، تبدلت مراكز القوى، وتغيرت المواقف والنفوس. وحدها أم جميل بقيت هناك، في منزلها في بني جمرة، تتنفس ذكرى الشيخ وتعيش على ذلك الإرث الضخم من المحبة والألم والشجن... والذكريات.
العدد 1923 - الثلثاء 11 ديسمبر 2007م الموافق 01 ذي الحجة 1428هـ