في الصباح الباكر ليوم 18 ديسمبر/ كانون الأول 2006 تسلمت مكالمة هاتفية من أخي الأكبر محمدجميل، وبمجرد رؤيتي رقم الهاتف المتصل بدأ قلبي ينبض بسرعة، إذ ليس من العادة أن أتسلم اتصالا في هذا الوقت من أحد أفراد العائلة إلا إذا كان الأمر طارئا.
الخبر الطارئ - كما توقعت - كان يتعلق بالوالد الشيخ عبدالأمير الجمري الذي كان على فراش المرض مدة أربع سنوات ونصف السنة بعد أن أصيب بعدة جلطات في منتصف العام 2002. هُرِعْتُ إلى غرفة الوالد في منزله في بني جمرة وكانت سيارة الإسعاف للتو قد وصلت، والمسعفون يحاولون جاهدين إعادة قلب الوالد إلى الحياة عبر التنفس الاصطناعي.
الطريق إلى مجمع السلمانية الطبي كان سالكا في ذلك الوقت المبكر، وبمجرد وصول الإسعاف إلى «الطوارئ» كان الأطباء قد اجتمعوا حوله ليعلنوا أن روحه قد فارقت الدنيا والتحقت بالرفيق الأعلى.
ذلك اليوم لم يكن عاديا أبدا؛ فقد كان أبرد يوم في السنة، بل إن درجة البرودة ازدادت مع تحرك الساعة نحو المساء، ولست أدري لو لم تكن درجة البرودة بتلك القساوة فكيف كانت ستجري الأمور؛ لأن البرد كان هو الذي ساعد على تفريق الحشود الغفيرة مساء ذلك اليوم، وهي حشود لم تشهدها أية جنازة في تاريخ البحرين.
كل شيء بدا مختلفا في ذلك اليوم... الناس تتناقل أنباء الجنازة ومسيرة التشييع، واضطرت العائلة إلى تغيير موعدها وطريق السير، وكيفية تسيير الجنازة. وهكذا كانت الترتيبات تجري بسرعة ومن خلال مشاركة عدد كبير من الناس فيها، واضطررنا إلى نقل النعش سرا حتى تبدأ مسيرة التشييع في منطقة المقشع/ كرانة/ أبوصيبع باتجاه بني جمرة. ولكن المسيرة كانت كبيرة جدا بحيث لا يسمع من هو بآخرها ما يجري في وسطها أو في مقدمتها.
الوجوه التي أطلت على نعش الجمري وهو مسجى فوق السيارة التي حملته على شارع البديع كانت تعرفه كما كان يعرفها، وكانت تعشقه كما كان يعشقها، وكانت قريبة منه كما كان قريبا منها.
إدخالُ النعشِ القبرَ كان من أكبر التحديات، وكان الشباب المجتمعون يحاولون حماية القبر من الانطمار قبل دخول النعش منطقة القبر... كل ذلك كان والبرد القارس يخترق العظم، وهو البرد الذي ساعد بعد ذلك على تفريق الجموع إلى منازلها... فلو كان الطقس عاديا لما انفكت الجماهير من حول القبر طوال الليل حتى اليوم التالي.
تُرى، ما سر العشق الذي ربط بين الشيخ الجمري ومحبيه؟ ومن هم محبوه؟ ولماذا رفعوا ذكره إلى الأعلى بالطريقة التي شاهدها الجميع؟ هذه بعض الأسئلة التي تكررت في ذهني وأنا أحاول أن أرجع ببعض الذكريات إلى الوراء سعيا لاكتشاف جوانبَ من شخصية الشيخ عبدالأمير الجمري. وفي هذه الحال، أحاول أن أفصل بين كونه والدي، وكونه رمزا اجتماعيا سياسيا ارتبطت به كما ارتبط به غيري من أهل البحرين.
أعود بذاكرتي إلى العام 1973 عندما عاد الوالد من العراق إلى البحرين لترشيح نفسه للمجلس الوطني... كان قد طرح نفسه للدائرة الخامسة عشرة التي خصص لها مقعدان في المجلس الوطني، وكانت تلك الدائرة تضم قرى عدة من بينها الدراز وبني جمرة والبديع، وكان الوالد قد طرح نفسه من دون توزيع صور على الشوارع بالشكل الذي كان معمولا به. وكان يزور المناطق، وذهبت معه في بعض الزيارات، ومنها زيارته مع الشيخ عيسى أحمد قاسم نادي البديع؛ لالتقاء أهالي البديع واستعراض الأفكار التي يدعوان إليها في حملتيهما الانتخابية. حينها كانت الدوائر مقسمة بصورة أكثر عدالة من الوضع الحالي، وكانت البديع ضمن محيطها، ولم تكن معزولة عن جوارها كما هو التقسيم الحالي للدوائر. أتذكر أنه تحدث بعد لقاء آخر له مع وفد من أهالي البديع زاره في مجلسه في بني جمرة وقال بعد خروجهم: «مشاكلهم تماما هي مشاكل القرى الأخرى، لا فرق أبدا، فهم يعانون من الإهمال كما تعاني القرى الأخرى».
كان الوالد حينها يعتمد على الآخرين لتوصيله من مكان إلى آخر، وفي أحيان أخرى كان يستخدم سيارة أجرة إذا لم يكن هناك من يوصله... ومجلسه في بني جمرة كان مركزا لنشاط الكتلة الدينية التي كان يجتمع أعضاؤها لترتيب برامجهم والاتفاق على الخطوات والأجندة التي كانوا يطرحونها في الشارع.
كان يذهب إلى المجلس الوطني (حاليا مبنى وزارة شئون البلديات والزراعة في المنامة) حاملا حقيبته المملوءة بالمضبطات والأوراق، وفي أحد الأيام عاد منهكا ودخل المنزل وكان وجهه متغيرا جدا. دخل مجلسه وهو حزين جدا... ماذا جرى؟ كان سؤال أفراد العائلة، ولكنه أجاب بحزن شديد: «أغلقوه»... فقد تم حل البرلمان وكان ذلك نهاية شهر أغسطس/ آب 1975.
ولكن لماذا أغلقوه؟... جوابه مملوء بالحزن: «كانوا يريدون تمرير قانون لسجن الناس ثلاث سنوات على أساس الشك ومن دون محاكمة». حينها كان الوالد مع إخوانه أعضاء المجلس الوطني يعارضون ذلك القانون ونشروا احتجاجهم آنذاك في الصحيفة الأسبوعية «الأضواء» وأعلنوا أنهم لن يوافقوا على تمريره مهما كانت الأعذار.
بعد حلّ المجلس الوطني كانت حياته مملوءة بالنشاط، فقد ساهم في رفع شأن جمعية التوعية الإسلامية، وكان يكتب زاوية «استفسارات دينية» في مجلة «المواقف» الأسبوعية، ويقدم برامجَ دينية في الراديو (وكانت تلك بعض مطالب الكتلة الدينية في البرلمان)، وكان يتحرك في المجتمع في مشروعات دعم الفقراء (التي تطورت لاحقا واتخذت شكل الصناديق الخيرية)، وكان يسعى دائما إلى توحيد كلمة علماء الدين وخطباء المنبر الحسيني تجاه القضايا المهمة التي تلامس حياة الناس.
في نهاية العام 1976 قرر أن يزور العراق... ولكنه كان يعلم أنه مطلوب لدى المخابرات العراقية بسبب مشاركته في مسيرة الاحتجاج التي صاحبت وفاة الإمام محسن الحكيم في العام 1970 وكان قد ألقى كلمة باسم علماء الدين البحرينيين هاجم فيها حكومة حزب البعث... وعليه، أجرى اتصالات عدة، تأكد بعدها أنه في أمان إذا كان سيسافر بجوازه الدبلوماسي الذي لم يسحب منه بعد حل المجلس الوطني. وذهب إلى العراق، وكنا نتتبع أخباره أولا بأول... وعندما كان هناك (نهاية 1976) تم اغتيال الشيخ عبدالله المدني في البحرين. فسارعت العائلة للاتصال به، وعاد على عجل وخصوصا أن الوضع كان قد توتر سياسيا في البحرين مع اتهام بعض العناصر القريبة من الحركة اليسارية باغتيال المدني.
في العام 1977 عُرِض على الشيخ الجمري العمل في القضاء الجعفري (المحكمة الجعفرية الكبرى)، وكان على علم بالآراء التي اختلف فيها الشيعة في البحرين بشأن شغل منصب القضاء ضمن المؤسسة الرسمية. وهذا الخلاف يعود إلى مطلع القرن العشرين عندما تأسست المحاكم الرسمية، وهو خلاف لم يحسم وإنما عالجه الزمن بحيث اضمحل نفوذ من يعارض، وانتقلت جميع شئون الأحوال الشخصية إلى المحاكم بما هي عليه. وقد رأى أن من واجبه العمل من داخل المحاكم لإصلاح أوضاع الشيعة، واستعان برأي اثنين من المراجع الدينية، السيد أبوالقاسم الخوئي، والشيخ محمد أمين زين الدين... ولكن دخوله المحاكم كان مدخلا أيضا لمن عاداه كثيرا وشن عليه حملات تشويه شخصية استمرت سنوات طويلة. مع كل ذلك، كان مقتنعا بقراره الذي اتخذه وخصوصا أنه كان يتحرج أيضا من العيش من أموال الحقوق الشرعية، وكان يفضل أن يعطي للحقوق بدلا من أن يأخذ منها.
ربما شخصية الشيخ الجمري اختلفت عن غيرها في بعض الجوانب، ولكنه كان مؤمنا وملتزما وحدة الكلمة وكان دائما يسعى إلى توحيد الصفوف. وقد كان في نهاية السبعينات ومطلع الثمانينات من القرن الماضي من أكثر علماء الدين الذين شُنَّت عليهم حملات تشويه شخصية، ونشرت الإشاعات ضده في كل مكان، وكان ذلك يحز في نفسه كثيرا ويتألم لمعرفته بعض الأشخاص الذين استهدفوه.
ربما بعض تفاصيل حياة الوالد الشيخ عبدالأمير الجمري مختلفة عن غيره... فهو كان قد سمح لبناته بإكمال الدراسة الثانوية والجامعية... وهذا يبدو عاديا الآن إلا أنه لم يكن كذلك في فترات سابقة. كما حرص على إكمال التعليم الجامعي لجميع أبنائه، وكان يصرف عليهم إذا لم يحصلوا على منح دراسية. ومرة أخرى يبدو هذا الأمر عاديا الآن، ولكنه لم يكن من الأولويات بالنسبة إلى الكثيرين في تلك الفترة.
عندما دخل سلك القضاء، شُنَّت عليه حملات واسعة النطاق، حتى إنه في العام 1978 - على ما أتذكر - لم يستطع ركوب المنبر الحسيني والخطابة في عاشوراء إلا في مكان واحد فقط... ولكنه تحمل كل الإشاعات والحملات ضده، وواصل دربه من دون أن ينحرف عن الخط الذي اختطه لنفسه.
في العام 1979 تغيرت الظروف السياسية مع انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وكانت الحالة الشعبية بدأت تتجه نحو الإسلام (ولم تكن كذلك قبل تلك الفترة)... وكان يتصدر عددا من النشاطات وكان كل عام أو عامين (منذ نهاية السبعينات حتى اشتداد الظروف في مطلع الثمانينات ومنتصفه) يكتب ويوقع ويسلم العرائض المطلبية. وفي أحد الاجتماعات مع كبار المسئولين في العام 1980 كان الحديث معه أن هناك أهدافا تختبئ وراء المطالب التي تتضمنها العرائض آنذاك، وكان جوابه: «ألا تعرفونني منذ أن دخلت المجلس الوطني؟ هل تغيرت مطالبي وخطاباتي عما كنتم تسمعونه حتى منذ أيام البرلمان؟».
في العام 1981 اشتدت الظروف قساوة في البحرين ولكن الشيخ الجمري واصل نشاطه الديني والاجتماعي - السياسي من دون توقف، وهذا أدى إلى قيام أجهزة الأمن بوضعه تحت المراقبة، وتمركزت سيارتان على الأقل أمام المنزل، واستمرت سيارات الأمن تلاحقه من منزله إلى أي مكان يذهب، حتى عندما يدخل الصيدلية يخرج من بداخل السيارة ويمشون خلفه داخل الصيدلية، ويخرجون وراءه ويسيرون خلفه. وقد استمرت هذه الحال من المطاردة اليومية نحو عشرين سنة بأشكال مختلفة بدءا من العام 1981 حتى العالم 2001.
بعد إغلاق جمعية التوعية الإسلامية مطلع العام 1984 أغلقت تقريبا جميع الأماكن التي يجتمع فيها الناس والشباب، ومنعت الندوات العامة والاجتماعات الحوارية... ولكن الشيخ الجمري قام في هذه الفترة بالذات بفتح مجلسه بصورة يومية، وخصص يوما واحدا في الأسبوع على الأقل للحوارات العامة، وكان هذا يضعه مباشرة في وجه الخطر... وقد كان عالما بخطورة ما يقوم به، وكان يتسلم الرسائل (عبر أشخاص مبعوثين خصيصا إليه) بضرورة إغلاق مجلسه والامتناع عن الاجتماعات وإلا فسيواجه مصيرا صعبا، ولكنه رفض وظل تقريبا الوحيد الذي رفض غلق مجلسه أمام هذا النوع من الاجتماعات طوال سنوات الثمانينات الصعبة جدا.
هذا النوع من التحدي وصل إلى ذروته في عامي 1987 و1988... وفي منتصف 1988 وصلت إليه رسالة من كبار المسئولين أن عليه أن يختار بين الاستمرار فيما يقوم به أو تحمل تبعات أعماله... واختار أن يتحمل تبعات أعماله، وكان له ذلك... ففي يونيو/ حزيران 1988 تم عزله عن منصبه في القضاء، وفي أغسطس 1988 اعتقل زوج ابنته (النائب عبدالجليل خليل إبراهيم)، وفي سبتمبر/ أيلول 1988 اعتقل ابنه (النائب محمدجميل الجمري). وفي سبتمبر 1988 أيضا تم اعتقاله من منزله، إلا أن زوجته (أم جميل) خرجت إلى الأهالي وأخبرتهم باعتقال الشيخ، فخرجت مظاهرة عارمة آنذاك، فاضطرت الجهات الأمنية إلى الإفراج عنه، ولكنها أبقت على زوج ابنته وابنه والشباب الآخرين الذين اعتقلوا آنذاك؛ لأنهم كانوا يداومون على حضور مجلسه.
انتهت سنوات الثمانينات وبدأ العقد التسعيني بغزو صدام حسين الكويتَ (أغسطس 1990)، وبعد ذلك تغيرت الظروف السياسية قليلا. ففي 1991، وبعد تحرير الكويت، تحدث الرئيس الأميركي جورج بوش الأب عن بداية نظام عالمي جديد، وصاحبت هذا الحديث تحركات في بلدان أوروبا الشرقية نحو الديمقراطية، وبدأت النخبة السياسية في الخليج تتحدث عن ضرورة إصلاح الأنظمة السياسية ودمقرطتها. في هذه الفترة بالذات بدأ الشيخ الجمري يتصدر الساحة السياسية الإسلامية (الاتجاه الشيعي) داخل البحرين، وقد اقتنع بضرورة تطوير أجندة العمل السياسي، وطرح فكرة العريضة النخبوية في الوسط الشيعي وتحالف مع الاتجاهات الأخرى.
ومع العام 1992 كان أول المتصدرين للعريضة النخبوية التي طالبت بتفعيل دستور 1973 وعودة الحياة البرلمانية وحل مشكلة البطالة ومعالجة الملفات الأمنية والسياسية الشائكة.
الوضع بعد العام 1992 بدأ يتغير داخل البحرين؛ بسبب تحرك النخبة ومناغمتها مجريات الأمور في العالم... وهذا دفع باتجاه طرح العريضة الشعبية العام 1994 التي تصدّرها أيضا في الجانب الشيعي الشيخ الجمري، وتحالف مع الاتجاهات الأخرى بشأنها.
ثم انفجرت الانتفاضة الشعبية نهاية العام 1994 وبرزت شخصية الشيخ الجمري بشكل أكبر، إذ لم يتخلَ عن شعبه، وأصر على ملازمته له في المعاناة وربط مصيره بمصيره... وعندما أرسلت إليه جهات رسمية من يساومه على أبنائه إذا لم يتخلَ عن تصدره الساحة قال كلمته الشهيرة: «كل أبناء الشعب أبنائي».
هذه المسيرة التي لم تنحرف عن خط استراتيجي وهو التحالف مع الناس ومن أجل الناس، والوقوف مع المظلوم ومشاركته آلام المظلومين... ونزوله إلى فئات الشعب المستضعفة والفقيرة والمحرومة، كل هذه السمات هي التي خلقت تلك الشخصية التي عشقتها الجماهير، تلك الشخصية التي ودعتها أكبر مسيرة تشييع شهدها تاريخ البحرين، تلك المسيرة التي خرجت في أبرد يوم، في 18 ديسمبر 2006.
العدد 1923 - الثلثاء 11 ديسمبر 2007م الموافق 01 ذي الحجة 1428هـ
أبي في دعة الله *الرفاعي*
أشهد لك يشهد لك التاريخ انك الانسان الواعي ذو النظره البعيده
تذكرني بجدي الذي اصر ع تدريس خالتي و والدتي في الثمانينات في المراحل الثانونيه والجامعية كان في ذاك الوقت لا احد يتقبل الدراسه بحكم المجتمع
فعلاً رجلً قوي والله انك من ابن هذه الارض الطيبه الاصيله
ملاحضة دكتور منصور
اتمنى التعمق في ذكر مواقف الوالد السياسيه وآرائه فالكثير منا ومن هذا الجيل لا يعرف آراء الوالد السياسيه التي وحدة شعب البحرين شيعة وسنه ولكم يكون انقسامات
تحياتي لط
ذلك الجمري حبي وحياتي
رحمك الله ياابا جميل فانت اب الشعب وعشيقهم ومؤنسهم\r\nوحاظنهم ومربيهم وقائدهم\r\nلن ننساك يا جمري\r\n
ذكرى الرحيل
رحمك الله يا أبا الشعب
انت الاب وانت الأمل
كنا على خطك سائرون وها نحن ما زلنا وسنستمر ما دُمنا أحياء فأنت الشعب وهل للشعب أن ينسى نفسه ؟
رحمك الله يا والدنا الغالي
الشعب لن ينساك ما دام حياً يرزق