قد نبالغ كثيرا إذا نظرنا إلى اجتماع الحجيج في مشعر من مشاعر الحج على انه مؤتمر عالمي بين المسلمين، يلتقون فيه مع بعضهم ويتداولون فيه أخبارهم وهمومهم، ليس لأن الله سبحانه وتعالى لم يرد لهذا الاجتماع أن يكون مؤتمرا عاما لهم، بل لأننا قي موقع الفعل والممارسة لم نفكر فيه جادين ومجتهدين ليتحوّل من مجرد فرصة ثمينة إلى مؤتمر عالمي فعال لعدد كبير من الحجيج المجتمعين.
كذلك نحن نبالغ حين نتحدث عن تجسد الوحدة بين المسلمين في الحج, لأن ما يمكنك أن تلاحظه من بعد وعلى شاشات التلفزيون هو صورة الوحدة, بينما لا يجد الحاج واقعا قائما لها، ولا يشعر بهذه الصورة في واقعه وحركة أيامه ومناسكه. فهناك إذا صورة للوحدة في الحج لكن واقع الوحدة مفقود.
صورة الوحدة هذه تتمثل في الشعار الواحد الذي يرفعه المسلمون، وتتجسد في اللباس الواحد، وتتجلى في حركتهم أفواجا في أوقات معينة والى أماكن محددة.
ولو تمعنت في هذه الصورة لتكشّف لك أن لباس الحجاج واحد, لكن القوانين التي تشرعها وزارة الحج لضرورات تنظيمية وغيرها فرضت على الحاج المواطن أماكن معينة في عرفة ومنى، تحت عنوان (حجاج الداخل)، وقسمت باقي المسلمين إلى شرق آسيا، وجنوب إفريقيا، وحجاج أوروبا، إلى آخر التقسيمات التي تكثر يوما بعد آخر، فانعزل حجاج الداخل عن حجاج الخليج، وكلاهما انعزلا عن بقية حجاج العالم. كذلك لم تمنع وحدة اللباس ووحدة الأعمال ووحدة الأماكن من وجود التمايز المادي بين الحجاج، فبالقرب من الجمرات في منى هناك خيام جُهّز داخلها من قبل مؤسسات الحج، لتصبح الخيمة الواحدة لشخصين أو أربعة وبمواصفات عالية يستحسن البعض أن يسميها (vip)، وفي عرفة كذلك يشترك المسلمون في اللباس، لكن هناك خياما معروفة من هيكلها وشكلها يسكنها الحجاج القادرون على الدفع بتسابق ومنافسة بين المؤسسات وحملات الحج التي هم فيها، وبين بقية المؤسسات والحملات الأخرى.
أرضية تنتظر الاستثمار
لن يؤدي الحج دوره كوسيلة للتعارف والتآلف بين المسلمين, والمسلمون بعد لم يقرروا الاستفادة منه على هذا النحو. فالحج يوفر أرضية خصبة لهذا النوع من التعارف الهادف والمقصود لروح الشريعة, لكن الحاجة ملحة وماسة لمجموعة من الخطوات الضرورية للاستفادة من الحج في هذه الزاوية الميتة.
وما أكثر الأرضيات الخصبة التي لا نحسن زراعتها واستثمارها، خذ مثلا الكثير من علاقات الجيرة, وعلاقات رفاق العمل, وحتى علاقات الأسرة الواحدة فيما بينها, فهناك أسرٌ يربطها السكن الواحد والأب الواحد والتربية الواحدة، لكن القلوب والأهواء والمصالح شتى. وهناك جيران لكنهم بالاسم فقط, أما واقع الجيرة فضمن قانون (وقف التنفيذ), وهناك مجتمعات صورتها الخارجية قد لا تعكس شتاتها وصراعاتها الداخلية الغبية.
ربما لا يكون جديدا فيما سأكتب لأنه يدور في فلك ما كتبه المفكر والمصلح الإسلامي الكبير عبد الرحمن الكواكبي في كتابه الجميل «أم القرى»، لكنها آمال وأحلام سطرتها عسى الأيام تناصرها كي تتحول إلى واقع:
1 - لقاء على مستوى القيادات: تحضر في أيام الحج مختلف الزعامات الدينية المؤثرة في العالم الإسلامي, وتتواجد في مكان واحد بعد أن كانت في بقاع متباعدة وشتى, لكل واحد همومه ومشاكله وقضاياه، وكذلك له تصوراته ومقترحاته وأفكاره للحل. إن اللقاء على مستوى القيادات الدينية سيثري كل قيادة بما يفيدها ويفيد قضاياها، وسيشعر المتصدين منهم بأنهم جزء مهم من عطاء وبذل يشترك معهم فيه رجال آخرون (صدقوا ما عاهدوا الله عليه), وسيتمكن كل واحد منهم أن يستفيد من إمكانات الآخر, ونقاط الرخصة والسعة المتوفرة في ساحته وضمن ظروفه.
2 - لقاء على مستوى المفكرين والمثقفين: الذين يؤثرون بآرائهم وأقلامهم في استنهاض الأمة، واجتراح الحلول لقضاياها. إن أغلب هؤلاء يأتون إلى الحج ثم يعودون دون أن يجمعهم لقاء بأمثالهم إلاّ من سبق لهم معرفته ومعرفة قدومه للحج.
ربما أكون مقتنعا أن هناك صعوبة كبيرة في معرفة هؤلاء، إلا أن الإرادة الجادة للتلاقي والسعي الحثيث لذلك يمكنهما أن يذللا الكثير من الصعوبات والعقبات.
3 - لقاء على مستوى المؤسسات الفاعلة: الدعوية والاجتماعية والسياسية، التي يتواجد بعض أفرادها في الحج، سواء كانت تلك المؤسسات رسمية في بلادها أم أهلية، لأن الغرض هو بلورة القضايا المشتركة، واستفادة كل مؤسسة من أشباهها وأمثالها من المؤسسات.
إن الدافع للعمل والعطاء والنشاط سيتضاعف مرارا حين تتطلع كل مؤسسة على أعمال المؤسسات الأخرى، وستتولد ثقة كبيرة في النفوس جراء معرفة الإنجازات التي تتحقق هنا أو هناك.
سأختم بسؤال أحب أن نتشارك في إجابته، ففي كل مشعر ومكان من أماكن الحج المباركة توجد وحدات للدفاع المدني تخصص لها الخيام والساحات لتقوم بعملها، وهناك مجموعات الكشافة كذلك، وهناك طواقم الصحة، ورجال الأمن، فهل يمكننا تخصيص أماكن لتكون عامة وتتوفر فيها إمكانيات ووسائل التلاقي بين الحجاج ليتحدثوا مع بعضهم في المشتركات؟
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"العدد 1921 - الأحد 09 ديسمبر 2007م الموافق 29 ذي القعدة 1428هـ