العدد 1921 - الأحد 09 ديسمبر 2007م الموافق 29 ذي القعدة 1428هـ

فوضى سياسية بين رايس وغيتس

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

موقفان لافتان صدرَا عن مسئولين أميركيين في فترة متقاربة يعكسانِ مدى الفوضى السياسية التي وصلت إليها إدارة الرئيس جورج بوش. الأوّل أعلنت فيه وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس انزعاجها من قرار حكومة تل أبيب استئناف بناء المستوطنات في الضفة الغربية وتوسيع الوحدات السكنية في القدس المحتلة. الثاني أعلن فيه وزير الدفاع روبرت غيتس أنّ إيران تشكّل الخطر الوحيد على المنطقة وأنّ «إسرائيل» لا تشكّل خطرا.

الموقفان متعارضان. الأوّل يُعرب عن قلقه من سياسة توسيع الاستيطان في الأراضي الفلسطينية معتبرا تلك الخطوة محاولة لتقويض التفاهم الذي ظهر في اللقاءات التي سبقت وأعقبت «مؤتمر أنابوليس» ويشكل إشارة سلبية تزعزع الثقة وتعطل على الرئيس بوش إمكانات مواصلة نشاطه في إطار تصوّره عن «قيام دولتين».الثاني يسقط عن «إسرائيل» تهمة زعزعة الاستقرار وتوتير أمن المنطقة ويرفع عنها مسئولية الاحتلال والعدوان والطرد والقتل والتدمير والتوسّع ومخالفة القرارات الدولية.

غيتس لم يستطرد كثيرا في شرح وجهة نظره. فهو أطلق مجموعة كلمات غاضبة ومنفعلة ولم يشرح قصده من وراء تبرئة «إسرائيل» من كلّ الكوارث التي ألحقتها بالمنطقة منذ نكبة فلسطين واحتلال الأراضي العربية وطرد سكّانها وتكرارالاعتداءات على لبنان وتدميره وتحطيم بناه التحتية وتقطيع أوصاله تباعا وصولا إلى الحرب الأخيرة في صيف العام 2006. كلّ هذا القتل لا يرى فيه غيتس مخالفة للقوانين الدولية أو تهديدا لأمن المنطقة واستقرارها أو تقويضا لأسس السلام أو حتى لذاك الكلام الوردي الذي ورد في قاعات «مؤتمر أنابوليس». فإذا كان كلّ هذا لايشكّل زعزعة للمصالح والثقة فماذا إذا عن التصريح الذي صدرعن وزيرة الخارجية؟ فهل الكلام الذي قالته رايس عن توسيع المستوطنات وانعكاساته السلبية لامعنى له ولا يشكّل قيمة في نظرغيتس؟!

هذا التعارض بين رايس وغيتس في مسألة واحدة لا يعني بالضرورة أنه يعكس ذاك التناقض المفترض في توجهين بقدرما يشير إلى وجود فوضى سياسية عارمة أخذت تضرب إدارة واشنطن وتزعزعها من الداخل. رايس لاتختلف كثيرا عن غيتس. فهما ينتميانِ إلى مدرسة يطلق عليها «الواقعية السياسية». وهما يعارضانِ سياسة تيار «المحافظين الجدد» ونزعته الأيديولوجية الداعية إلى مزيد من الحروب والتقويض. ولكنهما في النهاية لا يفترقانِ على المبدأ الذي تعتمده الاستراتيجية الأميركية ويقوم على قاعدتين جوهريتين: أمن النفط وأمن «إسرائيل» وملحقاتهما. والملاحق تعني ضمان الوجود العسكري الأميركي في المنطقة، تسويق السلاح، وتأمين السوق لمؤسسات التصنيع الحربي.

رايس وغيتس من مدرسة واحدة. والفارق بينهما في درجة الذكاء. فالوزيرة أذكى من الوزير وقادرة على التقاط المفارقات في اللعبة الأميركية وتغطية تلك المعايير المزدوجة في سياسة واشنطن وتعاملها الاستعلائي مع ملفات المنطقة.

غيتس مثلا، بالغ كثيرا في سياسة استغباء الناس والاستخفاف بعقولهم حين كان يلقي كلمته «الوعظية» في مؤتمر»حوار المنامة». فالوزير خرج على تحفظه وانزلق في اتجاه لا منطق له مستخدما ذرائع تتعارض مع أبسط قراءة للمعادلة وتخالف حتى تلك المشاهد والصور واللقطات التي تنقلها المحطات والمرئيات والفضائيات.

قلّة الاحترام استفزت العقول والكرامات حين وصلتْ إلى حد احتقار مشاعر ومصالح وحقوق الحاضرين وتعاملت مع المستمعينَ وكأنهم مجموعة من الجاهلين لايعلمون ولا يدركون ولا يسمعون ولا يشاهدون.

ثقافة عنصرية

هذا النوع من التعامل الأميركي الكريه مع شعوب المنطقة أسس في العقود الأخيرة سلسلة جبال تفصل وتعزل الناس عن دولة تدّعي الحرص على العدالة وحقوق الإنسان ولا تتردد في الإطاحة بعقول الناس ومشاعرهم بمناسبة ومن دون مناسبة. وكلام غيتس الاستفزازي ليس بعيدا عن منطق إدارة تعتقد أن شعوب المنطقة جاهلة لا تقرأ ولا تسمع ولا ترى.

المسألة تتجاوز المصالح لكونها تتعدّى على الأخلاق وتتطاول على العقول وتستهتربالمشاعر وتتعامل مع الناس من موقع «الأستاذية» الذي يشرف على تربية جيل قاصرلا يدرك من أينَ تأتي المصائب؟ ولا يعرف كيف يدبر شئونه؟

كلام غيتس يتجاوز السياسة؛ لأنه بكلّ بساطة يحتقر السياسة بصفتها ذاك العلم الذي ينظم المصالح ويضبط العلاقات ويساعد على ترتيبها وفق معادلات تحترم أمن الشعوب وحقوقهم. وما قاله غيتس عن «إسرائيل» النووية يعطي فكرة عن مدى استهتار الولايات المتحدة بأمن المنطقة ومصالح شعوبها. فهو في كلامه تجاوزالكذب وحاول تكذيب الحاضرينَ وتصحيح قدراتهم على الوعي والقراءة والكتابة والمخاطبة والاستماع والمشاهدة. وهذا النوع من التعامل مع «نخب المنطقة» شكّل في السنوات الماضية حالات من التشنج حتى في وسط تلك الحلقات المثقفة التي تعتبر تقليديا من القوى المتفهمة لذاك «النموذج» الأميركي.

الإدارة الأميركية الحالية تعاني فعلا من فوضى سياسية ناجمة عن قراءات خاطئة للعلاقات الدولية وأسلوب التعامل الفوقي مع شعوب المنطقة العربية ونخبها. وهذا القراءات الفاشلة جاءت نتاج تصورات وتوهمات تعتبرأنّ عقول الناس قاصرة ومشاعرالشعوب مخبولة وبالتالي فإن البشر بحاجة إلى دروس ومواعظ وكلمات ترشدهم على الطريق الصحيح وتدلّهم على مكامن الخطر. وخطاب غيتس في «حوار المنامة» لم يخرج في حدوده العليا عن هذه القناعات التي تؤشر إلى وجود نوع من العنصرية الثقافية تعطي لنفسها حق السخرية والاستهزاء والإهانة ولا تعترف للآخر بالحد الأدنى من الاعتبار وإمكان امتلاكه بعض العلوم والمعلومات والمتابعة والمشاهدة.

قوبل خطاب غيتس باستخفاف، وضحك عليه الجمهور وسخرمن تنظيراته وتبريراته ومنطقه المزدوج والمتهافت. وهذا النوع من الرد الذي شاهده وزير الدفاع مباشرة من الحضور في القاعة يشكّل إشارة منطقية للتأكيد مجددا على مدى سلبية القراءات الخاطئة التي تصرّ إدارة تعاني من فوضى سياسية على الاستمرار بها من دون اعتبار للناس ومصالحهم وأمنهم واستقرارهم ومستقبلهم.

خطاب غيتس المترهل في قناعاته جاء ليرد من بعيد وعن غير قصد على تصريح أدلت به وزيرة الخارجية بشأن قرار تل أبيب توسيع مستعمرات في القدس والأراضي المحتلة بعد أقل من أسبوع على تفاهمات قيل إنّ «مؤتمر أنابوليس» توصّل إليها وتريد إدارة بوش البناء عليها بهدف توضيح «خريطة طريق» يقال إن واشنطن تريدها باتجاه تأسيس «دولتين» في فلسطين.

رايس اعتبرت قرار حكومة إيهود أولمرت محاولة لتعطيل رغبات الإدارة الأميركية وطموحها لتشكيل خطوات مقبولة من الطرفين تمهد الطريق لقناعات بوش ورؤيته لمستقبل المنطقة. غيتس يبدو أنه في عالم آخر أو بات في وضع لا يسمح له بالسمع والمشاهدة ولا حتى أخذ كلام وزيرة الخارجية في الاعتبار. وهذا التعارض بين الوزيرين ليس تناقضا بقدرما يشير إلى حال الضياع التي تمربها واشنطن في ظل قيادة إدارة تعاني فعلا من فوضى سياسية عارمة.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1921 - الأحد 09 ديسمبر 2007م الموافق 29 ذي القعدة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً