العدد 1921 - الأحد 09 ديسمبر 2007م الموافق 29 ذي القعدة 1428هـ

مفارقات نجادية في قمة خليجية

خالد المطوع comments [at] alwasatnews.com

ما طرحه الرئيس الإيراني أحمدي نجاد الذي حل ضيفا عزيزا على القمة الخليجية في الدوحة لربما يصلح في معظمه لأن يكون خطة عمل وخطوات تقارب استراتيجي واندماج اقتصادي نحو أفق عصري ومرحلة مستقبلية وردية يتمناها جميع أبناء المنطقة. وذلك بما سيسود فيها من رخاء وازدهار وتآخي عصري يرمي خلفه مواريث الحساسيات والأحقاد الطائفية والعصبية الجاهلية، فبمثل ذلك الاندماج والتكتل الاقتصادي التقدمي الذي أتى بناء على مصالح حيوية مشتركة بين جميع دول المنطقة قد تنتعش روابط الانتماء التاريخية المفسدة، والتي كان من المفترض أن تكون الأكثر اقترابا وحميمية.

ولعل في ما أثبتته تجارب الأحلاف والمحاور الاقتصادية من طاقات توحيدية وتجميعية فاعلة بين مختلف الكيانات، ومنها تجربة الاتحاد الأوروبي الرائدة، ما يغنينا عن التعويل على صهير «الأيديولوجيا» أو على حاضنة الدين المشتركة الحافلة باليقينيات المطلقة والمتضادة لدى كل طرف وجانب، أو أن نسحب خيط نوستالاجي ماضوي عن حلم «دولة الخلافة» كحل لا زال قائما لدى البعض!

فمثل تلك الرؤى العصرية الحديثة لنسج التحالفات المتماسكة ورص المصالح المشتركة حتميا كان لابد أن تسود بحكمتها في دول المنطقة، فهي بلا شك تمثل المخرج الواقعي البديل المتجاوز لمواريث الهيامات والأحقاد التاريخية في وقت واحد. وهي التي تجسدت بوضوح في كلمة جلالة الملك المفدى في القمة حينما قال: «إن الاقتصاد الذي هو الأفضل والأكثر ملائمة نحو توثيق عرى الروابط فيما بين شعوب دول الخليج كافة يتطلب منا العمل على تعزيز وتحقيق اندماج اقتصادي متين وراسخ لخير ورخاء شعوبنا الشقيقة وترابط مصالحها». وعلاوة على ذلك فإن الاقتصاد قد يضع الأمور عند أنصبتها العقلانية والعملية فيشمل تحقيق المصالح الحيوية المشتركة لجميع شعوب ودول المنطقة. وإن كنا قد سلمنا بأن القرار الاقتصادي في النهاية مرهون بقرار سياسي، والأخير محكوم بمنظور استراتيجي محكم لا زال أسيرا لرهانات أميركا الامبريالية في المنطقة والعالم أجمع!

ولكن مع كل ذلك الإعجاب والتقدير والتفاؤل الحسن هل فات الرئيس نجاد أن تلك الأمنيات الضرورية والآمال الحتمية بأن يعم الرخاء والازدهار ويكون لشعوب المنطقة ولو نصف كلمة في تقرير مصيرها، تلك الأمنيات لا يمكن تحقيقها دون حسم الوضع بشجاعة نادرة مع الملفات التاريخية المؤجلة ومنها بالطبع ملف الجزر الإماراتية المحتلة، والتي من الأجدر أن يتم حلها بطريقة عصرية وواقعية أيضا تسلم وتتمسك مسبقا بحلول القضاء الدولي، فبدون تلك المصارحات الحقيقية التي تسعى لمواجهة الحاضر ومحاورته في أطر من المصارحة الشفافة، دون أن تتجاوزه وتتوخى الإفراط في المجاملات وعمليات التجميل، من دونها جميعا لا يمكن أن تتحقق الثقة المشتركة بين الطرفين ويدوم الوئام بينهما، وهو ما يعني استحالة تحقق الأمن والاستقرار في المنطقة، ومن دون أمن واستقرار فإن تلك الحلول والمبادرات النجادية الذهبية تصبح أشبه بالمغامرة الطوباوية، هذا إن لم تكن هي الأخرى في عداد تطييب وتطبيب الخواطر أو ترميمها!

كانت المواقف الخليجية الرسمية ولا تزال تعترف بمناسبة وبدون مناسبة بحق إيران المشروع في حيازة الطاقة النووية لأغراض سلمية، وترى في استهداف وتهديد أمنها من قبل ما نطلق عليه خطابيا ودلاليا شعوبا ونخبا وفية لحقيقة انتمائها الإنساني أولا وآخرا بــ «القوى والهراوات الإمبريالية المتربصة والكائدة شرا لإرادة شعوب المنطقة المستضعفة وثرواتها المنهوبة» فهو بمثابة تهديد لأمن واستقرار المنطقة والعالم إجمالا، وهو بمثابة انتحار جماعي ذو عقابيل مدمرة لا حصر لها!

إن من حق إيران أيضا أن تحوز الطاقة النووية كمصدر بديل للطاقة وللاستخدامات الدفاعية ضد ما يهدد أمنها القومي في عالم تسوده ازدواجية المعايير ويسير على عقيدة الحرب الاستباقية أيا كانت حقيقية الموقف ونية الوضع، خصوصا مع صدور تقرير المخابرات الأميركية الذي أتى مساندا لتقارير «الوكالة العالمية للطاقة الذرية» ومتصادما مع الهجوم المتغطرس لطغمة الشر والدمار الأميركية والصهيونية التي لم تتعلم جيدا الدرس الأليم من العراق، هذا إن لم يكن الوضع العراقي نموذجا محبذا لإحياء مفاعيل الفوضى الخلاقة في المنطقة بمنظور إمبريالي متجدد!

وإن كان الرئيس نجاد قد اعتبر هذا التقرير الاستخباراتي المنصف لبلده والمحبط لإدارة بوش بأنه نصر مؤزر للأمة الإيرانية، وإن اعتبرت أوساط المحافظين الجدد ذلك التقرير فذلكة أكاديمية مملة دون الإثارة، فإننا نبارك للرئيس الإيراني هذا «النصر» وهذا الإنصاف الذي ربما طال انتظاره أمام مشروع عدوان قائم بذات العجلة التي أرديت فيها الذبيحة العراقية، ولكننا مع كل ذلك نقول بأنه ومن أجل تحقيق الضمانات الإستراتيجية الوثيقة والمتبادلة بين الجانبين، ولتحقيق تلك العروض والأحلام النجادية التي ربما يشاركه بها جميع أبناء المنطقة، فلا بد أن تنعكس تلك الرغبة بأثر صادق في جسد الذبيحة العراقية التي أدى الانفضاض العربي المخزي عنها إلى أن تكون ساحة مستباحة لاندفاع استراتيجي محموم ومتبادل بين اللاعبين الأميركي الإمبريالي الدخيل واللاعب الإيراني الانتهازي الذي رأى ويرى نفسه للأسف خليفة نظام صدام حسين في المنطقة، كما كانت له اندفاعات أخرى في المنطقة باتت تثير العديد من الحساسيات المذهبية والداخلية!

وبلا شك فإن مثل تلك الاندفاعات الاستراتيجية الإيرانية في أعصاب وشرايين المنطقة، وإن كانت مبررة ومقبولة منطقيا بحكم الغياب والتردي للدور العربي الواحد في المنطقة والتواطؤ أمام مشهد سقوط الذبيحة العراقية، إلا أنها دون شك لا يمكن أن تفصح عن تجسد أية رؤية لشراكة عصرية كالتي عبر الرئيس نجاد عن رغبته ودعوته لتحقيقها مع دول الخليج العربية ضمن محيط مشترك لا غنى فيه لطرف عن الآخر في تسويد الأمن والاستقرار والازدهار!

مثل تلك الاندفاعات والتغلغلات الملحوظة والمنفلتة العيار رغم منطقيتها جاءت أشبه ما تكون بالاستخلاف الاستراتيجي الشرعي في المنطقة من قبل حارس جديد من بعد حارس آخر، وإن كان لا يحقق نتيجة وجدوى عملية ومنطقية مضمونة لطرف دون الآخر، إذ جاء ذلك عقب سقوط إحدى الدعامات الاستراتيجية المتهاوية، وهو بالتالي أشبه ما يكون بمحاولة تجاوز لمشكلات وأزمات وقضايا الواقع المتراكمة تاريخيا التي لا يمكن التقدم للأمام فعليا بخطوة إيجابية واحدة دون أن تتم تسويتها، فأتى الأمر بالتالي في شكل محاولة لفرض شروط وإملاءات للتعامل والتنسيق والتعاون بعيدا عن ما هو موجود من معوقات رئيسية أصبحت نسيا منسيا أو واقع ثابت لابد من التسليم به أولا وآخرا!

ولعل إحدى لوحات تلك الصراعات الوجودية التاريخية والمضمرة التي تكشف هواجس التنافر وانعدام الثقة هو ما يتعلق بالتصادم بين تسميتي «الخليج العربي» أو «الخليج الفارسي»، وهو مازال يشكل بذلك صدعا بين الطرفين الرئيسيين في المنطقة بشكل يصعب رأبه دون تضحية بالمسمى الاستملاكي لأحد الأطراف، رغم أن الزعيم الإيراني الراحل الخميني كان قد اقترح مسمى «الخليج الإسلامي» كبديل جامع لشتى الأطراف، وفي الوقت الراهن يبدو للأسف «الخليج الأميركي» هو البديل الجامع الوحيد المتوافر لنا!

وفي هذا السياق أذكر ما رواه لنا أحد المسئولين عن حوار دار بينه وبين دبلوماسي إيراني في الخارج حول الجدال التاريخي بخصوص تسمية «الخليج الفارسي» إلا انه تعجب من ردة فعل هذا الدبلوماسي الذي لم يقم كعادة الإيرانيين بالتغني والاستشهاد بالوثائق والمستندات الجغرافية التاريخية وبأمجاد الأمة الفارسية المعززة للتسمية، وإنما أوجز قائلا «التسمية لا تعني بالضرورة تميزا واستفرادا وهيمنة على الخليج من قبل قوة معينة، فانظر مثلا إلى خليج المكسيك، لماذا لا تطالب الولايات المتحدة الأميركية بتسميته باسمها لكونها الدولة العظمى الوحيدة التي تطل عليه في قبالة دولة نامية، إنها أسماء تاريخية متوارثة وقد ثبتت كما هي في الخرائط والسجلات»!

وأذكر أنني رددت عليه بأنه وإن كان كلام الدبلوماسي الإيراني يبدو منطقيا ومقنعا ظاهريا إلا أنه لا يمكن غض الطرف عن ذلك اللهاث والاستذباح الإيراني حول تعقيد المسائل وتقعيدها قوميا وشوفينيا إلى حد تصبح فيه جزءا لا يتجزأ من الذات، فمن ينظر إلى التعامل الفج والمتغطرس من قبل السلطات الإيرانية من أعلاها إلى أسفلها مع هذه القضية، ومع استلام الطرود البريدية والمراسلات المعنونة بالخليج العربي ليدرك أنه إزاء بحيرة فارسية مغلقة ومعلقة، أو بالأحرى «استكانة» شاي فارسي يختلب شاربها بسكرة قومية وشوفينية متصدعة لا تضاهى، وبالتالي تظل تلك العقليات والسلوكيات والتأويلات المتبادلة التي تنفخ بعصبية متزمتة في الرؤى تجاه الآخر أساس البلوى والعائق الأكبر أمام تحقيق الشراكة العصرية الحقيقية ذات الثمار الإيجابية المنتظر قطافها بين الجانبين!

ولأجل ذلك بدت كلمة نجاد بما احتوته من دعوات ومبادرات طرحها في القمة الخليجية أمام قادة الدول الخليجية العربية أشبه ما تكون بالمفارقات (Paradoxes) بما تعكسه من انسجام والتزام ظاهري مباغت ومبهر مرئيا، وما تكتنزه داخلها، وفي الوقت نفسه، من تناقضات حدية تاريخية ظلت معرقلة ومؤجلة تتخمر في ثنايا العقليات والميادين الاستراتيجية المهيمنة دونما نهاية!

إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"

العدد 1921 - الأحد 09 ديسمبر 2007م الموافق 29 ذي القعدة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً