في مطلع الثمانينيات، نشر مستشار الأمن القومي الأميركي في عهد جيمي كارتر، وأحد أكبر المفكّرين الإستراتيجيين الأميركيين زبجنيو بريجنسكي كتابا عن السياسة الدولية، توقّع فيه سقوط الديمقراطية الهندية، لأنها من دول العالم الثالث.
اليوم، مرّت ثلاثة عقود على تلك النبوءة، ولكنها لم تتحقّق حتى الآن لحسن حظ الهند والعالم أجمع. وهو ما يثبت شيئين: أن توقعات العقول الأميركية لا تصدُق دائما، وتخطئ كثيرا... والثاني أن الأسس التي وضعها آباء الديمقراطية الهندية كانت قوية وصلبة ومتماسكة.
الهند ليست بلدا عاديا، بل قارة قائمة بذاتها، فيها عشرات اللغات الأساسية ومئات اللهجات، وفيها سبعة أديان كبرى، إلى جانب مئات المذاهب الفرعية والمجموعات العرقية، لا يجمعهم اليوم إلاّ النظام الديمقراطي الحقيقي الذي أحسن إقامته الآباء المؤسسون للجمهورية غداة الاستقلال. ففي الوقت الذي عاشت جارتها باكستان نصف عمرها في ظل حكم العسكر، استعصى النظام الهندي على الانقلابات، بتوزيع القوة على السلطات الثلاث، وتحييد الجيش وإبعاده عن السياسة. حتى نظام الطوارئ الذي فرضته انديرا غاندي في السبعينيات لم يستمر إلاّ لفترة قصيرة وعابرة.
أحد الإنجازات الهندية الكبرى معالجة مشكلة المنبوذين، الذين كانوا يشكّلون طبقة كبيرة من الشعب، بحسب معتقدات دينية بالية ترسّخت عبر مئات القرون. ولم تسقط هذه الطبقية إلا بجهودٍ مضنيةٍ من قبل الساسة الإنسانيين، وبدأها غاندي حين قاد أحد المنبوذين الفقراء بيده إلى الجامعة ليجلس على مقعدٍ واحدٍ مع أبناء الطبقات العليا والوسطى. وهي سياسة أخذت طريقها إلى التشريع، فسُنّت القوانين التي تحفظ حقوقهم وتضمن المساواة بين كل المواطنين أمام القانون.
هذه الأسس المتينة يعود إليها جزءٌ كبيرٌ من النمو والازدهار الذي تشهده الهند اليوم، ومتانة اقتصادها في ظل الأزمة المالية التي تعصف بالعالم. فهذا البلد الذي كان ساسته عاجزين عن إيجاد حلولٍ لمشاكله، بسبب الكثافة السكانية العالية، حتى اضطرت غاندي إلى اتخاذ إجراءات لتعقيم الرجال للحد من النسل وتقليل معدل النمو السكاني... فتحوّل هذا «العبء» إلى «ميزةٍ» في العقدين الأخيرين، بفضل سياسة الإصلاح الاقتصادي التي اعتمدتها منذ مطلع التسعينيات.
النظرة المستقبلية كانت حاضرة لدى الساسة الهنود، فالعالم مقبلٌ على مجتمع المعلومات، فكانت الخطوة الأولى الاستثمار في التعليم والاهتمام بالعنصر البشري. والهند بعد أن كانت خزّانا ضخما للعمالة الأميّة الرخيصة وغير الماهرة، أصبحت معاهدها وجامعاتها تخرّج آلاف الكوادر المؤهلة والمدربة. وهكذا قامت طبقةٌ هنديةٌ وسطى واسعةٌ، تتطوّر وتطور معها البلد.
اليوم، مازالت الهند تعاني من مشكلة الأقليات، والبلد الذي كان يحكمه نظام الطبقات المغلق منذ ثلاثة آلاف عام، يوجد فيه 160 مليونا من بين مليار و200 مليون، مازال بعض العنصريين المتدينين الذين يعيشون خارج العصر، يعاملونهم كمنبوذين.
ومع ذلك، في المحصلة النهائية، تخفّفت الهند من أغلالها، فأصبحت عضوا في النادي النووي بعد ربع قرن من استقلالها، وحجزت لها موقعا في نادي الفضاء بعد ربع قرن آخر. وتلك الملايين التي كانت تنام في العراء، تحسّن مستوى معيشتها. لم يختفِ الفقر، ولكن خفّت وطأته وقلت مظاهره التي تصدم النفس. ومن هذه الملايين المشرّدة، سمح النظام التعليمي لذوي الكفاءات أن تشق طريقها في الحياة، دون عقدٍ ولا أنظمة تمييزٍ واقصاء، لتصبح أهم عملةٍ صعبةٍ تملكها الهند
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 2279 - الإثنين 01 ديسمبر 2008م الموافق 02 ذي الحجة 1429هـ