يتواصل الحديث في أوروبا منذ فترة طويلة عن ميزات الوحدة الأوروبية والثقافة الغربية وحكم القانون والمساواة ومجتمعات الرفاهية التي يغري بريقها شعوب البلدان الفقيرة والنامية، ويعقد زعماء دول الاتحاد الأوروبي كل ستة أشهر اجتماع قمة لهم يكون بمثابة رمز للوحدة المنشودة، والبناء والتقدم الصناعي الكبير؛ وذلك بهدف التسريع في اتخاذ القرارات العاجلة والحاسمة لمختلف الملفات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية والعسكرية ومسائل حقوق الإنسان والهجرة واللجوء السياسي، وغيرها من القضايا الملحة ذات الاهتمام المشترك.
في كل تلك الاجتماعات واللقاءات ينشغل القادة الأوروبيون بإطلاق التصريحات لشعوبهم وللعالم، مؤكدين أن أوروبا الجديدة على مشارف أن تصبح «القوة الأعظم»، من حيث حجم التجارة والنفوذ السياسي والتقدم التكنولوجي واحترام مبادئ حقوق الإنسان والديمقراطية والتعايش السلمي. وحسب منطق أولئك القادة، ستصبح القارة الأوروبية مركز الإشعاع والنور والإنسانية، والمثال الذي يمكن أن تقتدي به شعوب العالم أجمع. ولكن خلف هذا الوجه الديمقراطي الانساني للأسف، ثمة وجه آخر بشع وظالم ومتغطرس وعنصري لا يحترم الشعارات الرنانة التي تطلقها حكومات وقادة تلك الدول. السياسات العامة ما برحت تواصل سعيها لإذلال الجنس الآخر، غير الأوروبي، وكراهيته وعدم سماع رأيه وتجاهل ثقافته. ففي هذه القارة المترامية يعيش اليوم ما يزيد على 25 مليون مواطن من غير الأوروبيين - حسب إحصاءات المنظمات الحقوقية الدولية - معظمهم من مواطني العالم الثالث الفقير، غالبيتهم من الملونين ذوي الأصول الإسلامية، وهم يعيشون في قاع المجتمع محرومين معذبين يفتقدون أبسط حقوق المواطنة والعيش الكريم، بوصفهم من الأقليات أو «الأجسام الغريبة في المجتمع» كما تصفهم بعض الأدبيات العنصرية. وعلى رغم أن أبناء الجاليات حصلوا على الجنسيات، أو أوراق الإقامة الدائمة بالدول الأوروبية التي يقطنون فيها، فإن أوضاعهم السكنية والاقتصادية وفرص العمل والحريات الدينية مازالت في أسوأ حالاتها. فهؤلاء يعملون إن وجدت فرص عمل بأقسى الأعمال وأسوئها أو الوظائف البسيطة الأقل أجورا، ويعيشون عموما بطالة عالية فضلا عن التحديات العنصرية والشوفينية.
كانت تفجيرات 11 سبتمر في الولايات المتحدة نقطة فاصلة في تعامل الحكومات الأوروبية مع الشعوب غير الأوروبية، إذ ازدادت القسوة ضد كل من هو «ملون» يقيم في البلاد الأوروبية، وقررت تلك الحكومات تشديد الخناق على مسائل الهجرة واللجوء والإقامة حتى تأشيرة الدخول، ولاسيما من القارتين الآسيوية والإفريقية. لم نسمع منذ فترة طويلة أي قرارات إيجابية تتعلق بقضايا الهجرة واللجوئين السياسي والإنساني لمن هم بأمسّ الحاجة إليهما، ولم نسمع عن أية معالجات جادة وصادقة تجاه قضايا الأقليات ومشكلاتها المزمنة. ولكننا تعودنا دائما سماع قرارات ضاغطة وخانقة ومخيبة لكل الآمال والتمنيات التي يحلم بها كل مواطن مغترب في أوروبا.
وبدلا من مراجعة الحكومات الأوروبية قوانينها، وإجراءاتها المشددة والمجحفة تجاه الأقليات وغيرهم ممن تغريهم الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في أوروبا، وبدلا من العمل على تذليل الصعوبات والعوائق التي تخنق الأقليات في عيشها وثقافتها وحرية معتقداتها واستخدام لغاتها الأصلية، صارت تفرض على الأجانب مزيدا من القيود، حتى بدأ البعض يطالب بشكل علني ورسمي بعمليات «ترحيل الأقليات إلى مواطنها الأصلية». وهكذا تتزايد اليوم قرارات معظم حكومات أوروبا لتضييق الخناق على الأقليات المغتربة، أو كما يحلو للبعض تسميتهم «القنابل الاجتماعية»الموقوتة في خواصر تلك الدول؛ وهذا ما يجعل تلك الأقليات تشعر بالقلق المشوب بالخوف من تنامي مظاهر القهر والعنصرية والتفرقة. تلك المظاهر أخذت تبرز معالمها جديا من خلال تصريحات بعض الجماعات العنصرية، والنازية الجديدة، والأحزاب اليمينية المتطرفة وتهديداتها، وهي كلها تدعو إلى طرد«الأجسام الغريبة» عن مجتمعات أوروبا «النقية والصافية والأصلية» كما يقولون
إقرأ أيضا لـ "هاني الريس"العدد 1919 - الجمعة 07 ديسمبر 2007م الموافق 27 ذي القعدة 1428هـ