هل يمكن أن نعدّ المؤتمر الدولي في أنابوليس - الذي تحوّل إلى تظاهرة دوليّة وعربيّة وإسرائيليّة بإشرافٍ أميركي - نهاية لحقبة من الصراع بين الموقعين العربي والإسرائيلي، أو بداية لطورٍ جديدٍ من هذا الصراع يتزامن مع حال اهتراء عربيّة عامّة يجسّدها العجز عن المقاومة، بعد إغلاق نافذة القوّة في المواجهة مع «إسرائيل»، وخصوصا لدى خروج الدولة العربيّة الكبرى مصر، من ساحة الصراع، وتحوّل الموقف إلى مصالحة مفتوحة مع العدوّ؟
إنّنا نتساءل: هل الموقف هو الضغط من أجل قرع جرس الانطلاق للمناضلين لتحرير أوطانهم، الأمر الذي لا يدور في ذهن أيّ نظام عربيّ، أو هو لإجراء عمليّات ترميم للأنظمة التي كلّما ظهر عجزها يتعاظم دور الخارج لمنعها من السقوط؟
ويبدو أنّ واقع القيادة العربيّة ليس أفضل حالا من لبنان في وضعه الراهن، إذ بات جمهوريّة في حمى الفراغ؛ لأنّ بعض مواقع القيادة العربيّة لا تقوم بمهمة التفكير والتخطيط المسئول للمستقبل؛ ما جعلها تعيش في حال أشبه بالفراغ السياسي والاقتصادي والأمني.
رسم سياسات جديدة للعرب
من اللافت أنّ وزيرة خارجيّة العدوّ تسيبي ليفني تحذّر العرب جميعا من التدخّل في المفاوضات مع الفلسطينيّين؛ لأنّها تريد للشعب الفلسطيني أن يكون معزولا عن العالم العربي، في قضاياه ومشكلاته، وفي التحدّيات التي تواجهه، تماما كما كانت الحال في مؤتمر مدريد الذي رفضت «إسرائيل» فيه أن تفاوض العرب مجتمعين؛ لأنّها تريد الانفراد بكلّ دولةٍ عربيّة، من خلال التركيز على نقاط ضعفها، وهذا هو الذي جعل القضيّة الفلسطينيّة تدخل في متاهات سياسية لم تبلغ بها أيّ هدفٍ من أهدافها الكبرى.
ومن جانب آخر، تمنّى رئيس وزراء العدوّ إيهود أولمرت ألا تكون عمليّة التطبيع مع العالم العربي مرتبطة بالحلّ مع الفلسطينيّين، كما اعتبرت وزيرة خارجيّته أنّ هذا الحضور الكثيف للعالم العربي يؤكّد أنّ دوله تحوّلت من التطرّف إلى الاعتدال الذي يفتح أبواب الصداقة مع العدوّ الصهيونيّ والخضوع للسياسة الأميركية، بما في ذلك التحالف مع العدوّ - إلى جانب أميركا - ضدّ إيران التي يُراد للعرب أن يضعوها في دائرة الخطر المحدق بهم، في الوقت الذي يُراد لـ «إسرائيل» أن تكون في موقع الحليف والصديق!
ومن الطريف أنّ رئيس كيان العدوّ شيمون بيريز، يفسّر حضور الدول العربيّة بهذه الكثافة، بأنّه لمواجهة التهديد الإيراني؛ ليُحاول أن يرسم للسياسة العربيّة خطّا جديدا تفرضه مقتضيات المصلحة الأميركية والإسرائيليّة، لا مقتضيات العرب وقضاياهم.
نتائج المؤتمر: هيكل دولة فلسطينية
السؤال الذي يفرض نفسه: ما نتائجُ هذا المؤتمر من الناحية الواقعيّة؟ لقد استمعنا إلى الرئيس الأميركي جورج بوش في خطابٍ حماسيّ انفعاليّ، يؤكّد فيه قيام دولةٍ للفلسطينيّين إلى جانب «إسرائيل» دولة للشعب اليهوديّ، بما يجعل الفلسطينيّين يعيشون حياة مستقلّة مستقرّة - كما يزعم - ويبشّر باللجان التي يؤلّفها لإدارة المفاوضات لتحقيق الهدف الفلسطيني، مغفلا الحديث عن قضايا الوضع النهائي، كالقدس، والحدود، والمستوطنات، واللاجئين، ولم يتحدّث عن الآليّة التي يمكنها أن تحقّق النتائج الكبرى في هذه المفاوضات التي استنفدت عشرات السنين، بما في ذلك اتّفاق أوسلو، الذي لم يكسب فيه الفلسطينيّون إلا الاحتلال الوحشي، والاجتياح العدواني، والاعتقال المتحرّك الذي امتلأت منه السجون، والاغتيال الذي يلاحق كلّ الطلائع الفتيّة في الضفّة الغربية وغزّة والقدس، والحصار الخانق من خلال المستوطنات والجدار العنصريّ، وتهويد القدس، إلى غير ذلك ممّا يدخل في تدمير البنية التحتيّة. ولم تحرّك الإدارة الأميركية - برئاسة بوش وغيره - ساكنا في عمليّة احتجاجيّة؛ بل اعتبرت كل ّما تفعله «إسرائيل» حربا على الإرهاب، ودفاعا عن النفس، إضافة إلى أنّ اعتبار «إسرائيل» دولة للشعب اليهودي يمثّل إعلانا غير مباشر يشجّع العدوّ على تهجير الفلسطينيّين من أراضي فلسطين 48. وأمّا القضايا الكُبرى، فتؤجَّل إلى المفاوضات التي تملك فيها «إسرائيل» كلّ الأوراق؛ ما لا يؤدّي بالتفاوض إلى أية مصلحةٍ للفلسطينيّين، وخصوصا مع غياب ضغط أميركي أو أوروبي أو عربي عليها في هذا المجال.
إنّ هذا المؤتمر لم يكن لتحقيق السلام للعرب والفلسطينيّين؛ بل هو من أجل الرئيس الأميركي الذي يريد أن يقدّم نفسه إلى العالم رئيسا يعمل من أجل السلام، ولاسيّما في قضيّة فلسطين التي لايزال العالم ينتظر إيجاد حلول واقعيّة لها، وخصوصا أن النتائج السلبيّة لتفاعلاتها - التي تنعكس على المنطقة اقتصاديّا وأمنيّا وسياسيّا - تؤدّي إلى تعقيد الأوضاع في العالم الإسلامي والعربي وفي أوروبا وغيرها.
ويبقى السؤال الكبير: ما الفائدة التي جنتها الدول العربية من حضورها الكثيف - ولاسيّما لبنان - في هذا المؤتمر الذي أريد له أن يكون أداة ضغطٍ جديدة على الفلسطينيّين لتحقيق أهداف «إسرائيل»، وفي طليعتها تنفيذ العرب التطبيع المجّاني مع كيان العدوّ؟
وفي خطٍّ آخرَ، لايزال العراق يستقبل في كلّ يومٍ المجازر الوحشيّة التي يُذبح فيها الأهل أمام أطفالهم، كما هو حال تلك الأسرة التي قُتلت ثأرا من صحافي معارض، وتنطلق قوّات الاحتلال لتثير العنف في أكثر من موقع، وتحرّك الفوضى في كلّ الميادين. ويبقى الشعب العراقي يعاني ذلك كلّه، ويندب حظّه منذ الغزو الأميركي لبلده.
ولا يسعنا في هذا المجال إلا تأكيد تصريح أسقف كانتربري، الذي قال قبل أيّام: «إنّ أميركا أسوأ مستعمر، وإنّ الحرب على العراق أدّت إلى أسوأ الأوضاع في العالم».
أميركا تطبّق وصايتها على لبنان
أمّا في لبنان، فقد أيقن الوسطاء العرب والفرنسيّون أنّ الأميركيّين نصبوا لهم فخّا في منتصف الطريق إلى الاستحقاق الرئاسي؛ ولذلك ركّزوا جهودهم على تنظيم الفراغ، وقيل لهم إنّ الفراغ قد يقيم طويلا في القصر الجمهوري، فمن يُرِدْ انتظار الضربة العسكرية الأميركية لإيران، أو يراهنْ مجدّدا على ضربة إسرائيلية لسورية، فعليه أن ينتظر حتّى مطلع شهر مارس/ آذار المقبل، وفق بعض التقارير الاستخباريّة التي يتمّ تسريبها من جهات دوليّة متعدّدة، ممّا لا نعرف مدى صحّته.
ولذلك يتندّر البعض في الوسط السياسي اللبناني كيف أن أحد الوزراء الأوروبّيين شكا أمام بعض أصدقائه من اللبنانيّين من فيتو أميركي ودخول غير مسبوق على خطّ الاستحقاق الرئاسي، والشكوى نفسها كرّرها وزير أوروبي آخر، وكيف انتهى التفويض الأميركي للفرنسيّين قبل يومين من موعد الاستحقاق، عندما شعر الأميركيّون بأنّ من الممكن أن يُمهّد الطريق لبعض المرشّحين؛ لأنّ أميركا التي تُطْبِق بوصايتها على لبنان، لا تريد أن يشاركها أحد في ذلك حتّى لو كان أوروبّيا.
إنّ أميركا لا تحترم إلا مصالحها الاستراتيجية التي تريد للبنان ولرئاسته ولحكومته ولجيشه والفريق السياسي الخاضع لها، أن يكون في خدمة مشروعاتها، وفي مقدّمها مشروع الشرق الأوسط الجديد، وحماية الأمن القومي الأميركي الإسرائيلي، في امتداداته لأكثر من دولة في المنطقة تعارض سياستها الأمنيّة، ولاسيّما في العراق وأفغانستان وإيران وسورية ولبنان.
وينبغي للبنانيّين جميعا التوقّف عند التصريحات التي يطلقها السفير الأميركي وتدخّله المفضوح في خصوصيّات الواقع اللبناني، على مستوى الاستحقاق الرئاسي وغيره، في إطار خطّ السياسة الأميركية الرسميّة في الوصاية على لبنان. كما أنّ عليهم التنبّه إلى التأثير السلبي لخيبة الأمل العربيّة من مؤتمر «أنابوليس» على الوضع العربيّ عموما، واللبناني خصوصا؛ ما يفرض العمل على صون الوحدة الداخليّة تجاه القضايا المصيرية التي تتعلّق بمستقبل البلد، وليس التفرّد في أخذ البلد إلى بعض المحاور التي تنتج مزيدا من التعقيدات في الواقع اللبناني.
أمّا الشعب اللبناني، فإنّه يواجه الموقف من خلال القلق النفسي والمشكلات الاقتصاديّة، وعليه أن يعمل لتحمّل المسئوليّة في الحفاظ على أمنه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وما إلى ذلك، وألا يخضع للذين يريدون استخدامه في أوضاع العنف خدمة لزعاماتهم ولمذهبيّاتهم ولطائفيّتهم ولأحزابهم.
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 1918 - الخميس 06 ديسمبر 2007م الموافق 26 ذي القعدة 1428هـ