يمرحل عبدالله فهد النفيسي في دراسته عن «تقويم الفكر الحركي للتيارات الإسلامية» (مجلة العلوم الاجتماعية، صيف 1995) تطور حركة الإخوان المسلمين من التأسيس (1928) إلى اغتيال مؤسسها حسن البنا (1949) على محطات ثلاث: الأولى (1928-1939) وهي: «مرحلة التعريف بالجماعة ومبادئها العامة وشعاراتها». والثانية (1939-1945) وهي: «مرحلة استكمال البنى التنظيمية والإدارية للجماعة». والثالثة (1945-1949) وهي: «مرحلة الفعل والتأثير في الحوادث المصيرية» وانتهت بمقتل البنا.
وتمر حركة الإخوان - بحسب تحليل النفيسي - بمرحلة من الاضطراب لمدة تقارب السنوات الثلاث «حتى تسلم حسن الهضيبي القيادة في 19 أكتوبر/ تشرين الأول 1951». وفي أقل من سنة حصل انقلاب 23 يوليو/ تموز 1952 الذي انتهى إلى التصادم مع جمال عبدالناصر في العام 1954 وأدى إلى حل تنظيم الإخوان ووضع قادته في السجون.
في المرحلة المذكورة حصل أهم تطور في حياة الإخوان ليس في نهج السياسة وإنما في الثقافة، عندما انتقل فكرها من الدعوة إلى التربية وإصلاح المجتمع وعدم تعارض النظام الإسلامي مع النظام النيابي واحترام إرادة الأمة وضرورة وضع تصورات وأنظمة لمستقبلها إلى الدعوة للانقلاب والثورة على الحكم، وهي الدعوة التي صاغ نظريتها السياسية سيد قطب بين 1954 و1965.
ركز قطب على فكرتين: جاهلية المجتمع والحاكمية ورأى أن الحكم يسبق الإصلاح، بينما ركز حسن البنا على مسئولية الحاكم ووحدة الأمة واحترام إرادتها وأن الإصلاح يسبق الحكم أو يمهد له.
ويرى رضوان السيد أن كتابات سيد قطب أربكت الفكر الحركي الإسلامي و «ما استطاعت تلك الكتابات العودة لشيء من التوازن حتى مطلع الثمانينات» حين «استتبت الصحوة الإسلامية على المستوى الثقافي والاجتماعي، وهي تناضل الآن من أجل مساحة على الساحة السياسية».
لكن عندما نضج فكر الحركات الإسلامية المعاصرة وقبلت بمنظومة التعايش مع الغرب والتصالح مع الدولة (المعاصرة القومية) فتح الغرب معركته وعاد التصادم بين الدولة والجماعات الإسلامية.
وقبل قراءة هذه الفترة وتحليل أسباب تصادم الدولة مع الجماعات لابد من العودة قليلا إلى مراحل التكوين التاريخي للفكر الإسلامي المعاصر وصولا إلى التسعينات.
وسنكتفي بمرجعين كتبا حديثا (1995) للمفكرين عبدالله النفيسي ورضوان السيد تناولا مجموع تلك القضايا الخلافية بين الإسلاميين.
الإحياء والثورة
يمكن طرح السؤال بشأن القضايا الخلافية كالآتي: كيف تطور الفكر الحركي الإسلامي من مرحلة التأسيس 1928 إلى مرحلة إعادة التأسيس في 1954، ثم العودة في الثمانينات إلى مرحلة العشرينات؟
لا يختلف تحليل النفيسي كثيرا عن تحليل السيد. الأول يقرأ الأفكار حزبيا ويضعها في سياقها السياسي وظروفها العامة. ويقرأ الثاني الأفكار كفترات زمنية تنتقل سياسيا من محطة إلى أخرى حاملة معها بصمات المرحلة السابقة.
يصنف النفيسي الفكر الحركي الإسلامي إلى مدارس فكرية. فهناك مدرسة حزب التحرير (الشيخ النبهاني)، ومدرسة الإخوان في رموزها الفكرية الثلاثة البنا وقطب وسعيد حوّى، ومدرسة تنظيم الجهاد ومرجعها محمد عبدالسلام فرج وكتابه «الفريضة الغائبة»، ثم يضع حزب الدعوة الإسلامي (العراقي الشيعي) إلى جانب التنظيمات الحركية الفكرية التي انتشرت في الأوساط السنية كمصدر من مصادر الفكر الإسلامي المعاصر.
يبدأ النفيسي من حزب التحرير على رغم أن تأسيسه جاء بعد عقدين من تأسيس حركة الإخوان، ويرى أنه يركز على الفكر ويهمل موضوع التربية ومسألة الحرية، ويشدد على عودة الخلافة الإسلامية وذلك عن طريقين العمل الثقافي والعمل السياسي. ومتى وجد الخليفة وجدت الدولة «لأن الدولة الإسلامية هي الخليفة». لذلك تميز حزب التحرير عن غيره بتركيزه على الدولة وقيامها فسارع إلى وضع مشروع دستور لها يتألف من 182 مادة تناولت مهمات الرئيس (الخليفة) والولاة والقضاة والجهاز الإداري والجيش ومجلس الشورى والنظام الاقتصادي وحقوق المرأة الاجتماعية والسياسية وغيرها من تفاصيل تتعلق كلها بمهمات الدولة ووظائفها.
ينتقل النفيسي إلى حركة الإخوان ويستعرض تطورها التاريخي ابتداء من المحاضرات والدروس وإصدار المجلات والرسائل والاتصال للتعريف بالجماعة وتشكيل لجان الدراسات الفنية «لصياغة القوالب النظرية التي تمثل الإسلام في حياتنا العامة». ويرى «أن البنا كان يتقيد بالأهداف المرحلية بشكل صارم، ويحاول أن يدخل في الإخوان هذه الموهبة السياسية إزاء الحماس والتدافع بينهم لخدمة الدعوة». واستمر الأمر في السياق المذكور إلى أن نشأ الجناح العسكري للجماعة الذي عرف بـ «النظام الخاص»، وهو «الذي ورط البنا والجماعة في شبكة من المآزق السياسية الخطرة، التي عرضت البنا للاغتيال، والجماعة للحل». فالبنا كان يتجنب المعارك الجانبية ويعقد المؤتمرات لإعادة النظر ومراجعة الخطط (مؤتمرات 1933، و1935و1937 و1939)، وأخيرا ممارسة النقد الذاتي.
بعد رحيل البنا بدأ الصراع بين الجناح السياسي للإخوان برئاسة المستشار حسن الهضيبي ورئيس الجناح العسكري بقيادة عبدالرحمن السندي، الأمر الذي أربك الإخوان وجعلهم يتخبطون في أولوياتهم ما أتاح لنظام عبدالناصر ضربهم بعد دخولهم في صراع مباشر معه.
غاب فكر الإخوان بغياب قادة الحركة في السجون ولم يظهر في تلك المرحلة سوى كتاب «معالم في الطريق» لسيد قطب فقلب النظريات السياسية السلمية لحسن البنا، وعرّض الإخوان مرة أخرى للملاحقة وإعدام قطب.
أدى إعدام صاحب كتاب «المعالم» إلى انتشار أفكاره وتحولت مقولاته إلى مرجع «الكثير من الجماعات الإسلامية، التي نشأت فيما بعد. كجماعة الجهاد، وجماعة المسلمين، التي اشتهرت باسم التكفير والهجرة».
دخل الإخوان في فترة غيبة فكرية وسياسية إلى أن بدأت الفترة الجديدة بعد الافراج عن المعتقلين في عهد السادات مطلع السبعينات، وهي مرحلة تميزت بنمو فكر جديد بقيادة المفكر الإخواني السوري سعيد حوّى وغياب أي نشاط فكري لفرع الإخوان في مصر في الفترة الممتدة من 1970 إلى 1981 على رغم أن إعادة تأسيس الفرع بدأت في 1973. ويرى النفيسي أن «هذه الحزبية البارزة لدى سعيد حوّى تعكس حالة فكرية وثقافية ونفسية مختلفة تماما عن الحالة الفكرية والثقافية والنفسية التي كان يكتب في إطارها المؤسس حسن البنا». مع ذلك «فهو يقبل مبدأ المشاركة في الوزارة، حتى لو لم تكن الدولة إسلامية أو عادلة».
يلاحظ النفيسي أن حركة الإخوان في مصر شهدت تحولا منذ السبعينات وهو «العزوف عن العنف بكل أشكاله، والالتزام بنهج العمل السلمي والتعددي». وهي على رغم خلافها مع السادات في مسائل عدة (زيارة «إسرائيل» 1977، وكامب ديفيد 1978، والمعاهدة مع «إسرائيل» 1979) التزمت «بالمعارضة السلمية لكل ذلك». ويرى «أن فكر الإخوان الحركي في مصر قد استقر على خيار العمل السياسي والاجتماعي والاقتصادي بالأساليب الدستورية القانونية المتاحة وليس خروجا عليها». وتمثل التحالفات الانتخابية والنقابية نماذج للعمل السلمي الإخواني كما حصل في دورتي 1984 و1987.
وينتقل النفيسي إلى فكر تنظيم الجهاد ونظرية «الفريضة الغائبة» التي تطالب بضرورة الجهاد من أجل إقامة الخلافة كهدف نهائي للتحرك. ويختلف فكر الجهاد كثيرا عن فكر حركة الإخوان حتى تلك التي انشقت عنها كجماعة التكفير والهجرة. فالأخيرة ترى أن الحاكم والمحكوم يعيشان في مجتمع جاهلي لابد من تقويضه بالهجرة عنه ثم فتحه بعد تكوين نواة الجماعة الأولى، بينما تنظيم الجهاد يرى أن مصدر الفساد «يتركز في النظام السياسي الحاكم وليس في المجتمع»، والجهاد عنده هو «وسيلة عملية لتقويم وضع لا يتمتع بالشرعية الإسلامية كما يفهمها التنظيم». ويرى النفيسي أن فكر تنظيم الجهاد يمثل «بكل المقاييس التجسيد والتجسيم المتكامل للفكر الاقتحامي».
يأتي النفيسي أخيرا إلى فكر حزب الدعوة، الذي تأسس في 1977 قبل قيام الثورة الإسلامية في إيران بسنتين، لذلك يبدي الحزب تحفظه على «مفهوم ولاية الفقيه» ويعلن «عدم التزامه بالمرجعية». ويستند إلى كتب السيدمحمد باقر الصدر وأوراق البيانات والوثائق التي تحدد رؤية الحزب لقضايا التنمية والصناعة والتجارة والنفط والسياسات الخارجية والداخلية والمالية ودور الدولة في المجتمع والمواقف من القومية والمشكلة الكردية. ولا يستبعد استفادة الحزب من تقنيات الثورة الإيرانية على رغم التوتر بينهما.
لا يتعارض تحليل النفيسي مع تحليل رضوان السيد العام في تقييمه لنمو الاتجاهات الفكرية المعاصرة في الحركات الإسلامية ومدارسها. يبدأ السيد من الفكر إلى السياسة، بينما ينطلق النفيسي من السياسة إلى الفكر ويصلان معا إلى تشابه في قراءة حركة الفكر الإسلامي وتطوره المعاصر.
يقول السيد في بحث بعنوان: «حركات الإسلام السياسي والمستقبل» إن «مشكلة المشاكل في الإسلام السياسي المناضل أنه ظهر واستتب في بيئات خلت من الثقافة والسياسة منذ أواخر الخمسينات». وتستخدم «حركات الإسلام الإحيائي أو الصحوي في مقاربتها للنصوص الدينية منهجا جديدا ما عرفه الفقهاء التقليديون ولا الإصلاحيون المحدثون». ويظهر ذلك «في تعبيراتهم التي لا تخلو من المقارنة بين نهج السماء ونهج الأرض، والنهج الإلهي ونهج التراب والدم، والجاهلية والإسلام، وعبودية العباد وعبادة رب العباد». وينتهي إلى تقويم غير محدد لفكر هذه الحركات فيقول: «ولست أجد مقياسا أقيس به هذه الثقافة أهي عصرية أو متخلفة أو ماضوية أو مستقبلية. كما أنني لا أرى معنى لذلك».
يرى السيد أن المشكلة الفكرية بدأت مع ما كتبه سيدقطب في السجن وخارجه بين العام 1954 و1965 ولم تنته بإعدامه مع ثلاثة آخرين في العام 1966. وعلى رغم أن قادة الإخوان ناقشوا أفكار قطب في النصف الثاني من الستينات فإن تيار الشبان مال إليه «حتى إذا أخرجهم الرئيس السادات من السجن العام 1971 انصرفوا لتكوين تنظيمات مختلفة يجمعها كلها القول بضرورة التغيير للأوضاع القائمة بالقوة». أما التيار الرئيسي في الإخوان رفض فكرة «الحاكمية والجاهلية» وقام بنقدها ونشر النقد في كتاب مشترك، كتب في النصف الثاني من الستينات، وصدر العام 1977 بعنوان «دعاة لا قضاة». بينما تمسكت جماعات التطرف بكتابات قطب وعبدالسلام فرج وبرزت منها تنظيمات مختلفة مثل «الفنية العسكرية» في 1974، والتكفير والهجرة في 1977، وجماعة الجهاد في 1979.
يحدد السيد سمات الفكر الإسلامي بين الأربعينات والسبعينات في بحث «التأصيل والتجديد» على النحو الآتي:
أولا: مشاركة دائرة واسعة من المثقفين العرب والمسلمين (من غير الإخوان) في حملة تأكيد الذات والهجمة على الغرب والاستشراق.
ثانيا: تفاوت المضامين والقيمة المعرفية للفكر الإسلامي المقارن والنقدي ما بين الأربعينات والسبعينات.
ثالثا: ترمي تلك المؤلفات كما تصرح إلى إحداث قطيعة كاملة بين الغرب والمسلمين أو الثقافة الإسلامية.
ويستنتج أن هذه كانت «جوامع في الجانب الهرمي أو النقدي في الفكر الإسلامي المعاصر حتى السبعينات في المجال الثقافي والحضاري» أما «الجانب السياسي فقد تأخرت الكتابات فيه نسبيا، بسبب من الطبيعة الإحيائية والأخلاقية العامة للفكر الإسلامي المعاصر».
يرى السيد أنه مع الثمانينات «أقبل الإسلاميون على القيام بجهود بنائية في مختلف المجالات الثقافية والفكرية» على رغم أن وعيهم بالذات والتمايز لايزال قائما وقويا و«مايزال هناك التباس لديهم بين الشريعة والقانون، وبين الشريعة والفقه». لكنه يلاحظ أن «النزعة التوليفية ذات البعد البنائي تتقدم في صفوفهم، بينما تنكمش الأصالة وتتراجع».
كان لابد من قراءة طويلة في نصين كتبا حديثا عن تطور الفكر الإسلامي المعاصر وخصوصا في جانبه السياسي /الحركي ليتم التعرف على مسألتين: تطور الواقع السياسي للمجتمعات وتحول طموحها من محطة إلى أخرى واختلاف أولوياتها بين مرحلة وأخرى. ثم تطور الفكر السياسي للجماعات وانتقال وعيها من سياق إلى آخر ثم انشقاقه واندفاعه إلى الأمام وأخيرا عودته لإعادة تنظيم نفسه. وهو أمر يؤكد أن الحركات الإسلامية تنظيمات سياسية قبل أن تكون دينية.
يمكن الاستنتاج من الحركتين حركة الواقع وحركة الفكر أن الثبات ليس سمة من سمات التنظيمات الإسلامية، كما أن الوحدة الفكرية ليست متوافرة بينها. فهناك أفكار إسلامية على عدد التنظيمات كذلك هناك اتجاهات مختلفة فكريا في التنظيم الواحد. وكل هذه التنويعات في اللوحة السياسية الحزبية للتنظيمات الإسلامية المعاصرة تؤكد مسألة مهمة، وهي حيوية تلك الحركات وقدرتها على التفاعل وأحيانا الفعل في الحوادث. وأخيرا وهذا هو الأهم مرونتها السياسة واستعدادها للتكيف مع المستجدات مطمئنة إلى شرعيتها التاريخية وثقة الجماهير بصحة خيارها العام: الإسلام.
إلا أنه إذا كنا نريد أن نستكمل التحليل فعلينا ألا نقف في نهاية السبعينات ومطلع الثمانيات، كذلك يجب أن لا نكتفي بقراءة تطور الأفكار في ضوء تحول الوقائع. فالمسألة ليست فكرية كما تظهر في المشهد السياسي وليست مجرد حلول ذهنية (نصوصية) لمشكلات شديدة التعقيد والتداخل.
لابد من قراءة عامة للمعضلة لا تكتفي بشرح وفهم نظريات الإسلاميين عن الدولة والمجتمع والموقف من الحريات العامة، بل تعيد قراءة مواقف الحكومات وخصوم الحركات الإسلامية ومفهوم تلك المنظمات السياسية للحركات العامة وتحديدا حرية الإسلاميين في العمل التنظيمي والشعبي، وحقهم في خوض التجارب الانتخابية وصولا إلى المشاركة بالسلطة وانتهاء بالوصول إليها والقبول بتداولها. فما هو حق لغير الإسلاميين هو حق للإسلاميين أيضا.
في السياق المذكور كيف ترى بعض الأنظمة المسألة، وكيف تقرأ الفكر الإسلامي والتكوين الاجتماعي للحركات الإسلامية؟
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1918 - الخميس 06 ديسمبر 2007م الموافق 26 ذي القعدة 1428هـ