المبادئ العشرة «المسيحية» و«اللبنانية» التي أعلنها قبل يومين الجنرال ميشال عون في برنامجه السياسي للمرحلة المقبلة تكشف بوضوح عن ذاك المأزق الذي يتأرجح عليه الكيان والدولة. فهذا البلد الصغير والجميل عانى منذ تأسيسه في العام 1920 من معضلة الهوية وصعوبة الاختيار بين الطائفة والدولة. فالطائفية شكّلت ذاك العائق الموضوعي لتكوين الكيان وإمكانات تطوير الفكرة اللبنانية وإعادة هيكلتها في إطار دولة. وأدّى هذا النوع من ازدواج اللغة إلى تشجيع سياسات ثنائية جمعت بين الطائفة واللبنانية أو بين حقوق الطائفة ومصلحة الدولة.
إعلان الجنرال عون الطامح للرئاسة عن مبادئ تخاطب «المسيحيين» وتطالب باسترداد حقوقهم من جهة وتخاطب «اللبنانيين» وتطالبهم بضمان حقوق المسيحيين من جهة أخرى يعطي فكرة موجزة ولكنها واضحة في تعارضها السياسي بين نهجين: نهج «طائفي» يلعب على مشاعر الشارع ويثير في وسطهم الحساسيات المذهبية طمعا في تأكيد مواقعه الشخصية في محيطه، ونهج «لبناني» يتعامل مع الدولة بصفتها ذاك الوعاء الذي يضمن تداول السلطة ضمن شروط توزع الحصص والأدوار بعيدا عن الهوية «اللبنانية».
كلام عون ليس جديدا في السياسة المحلية وتفكيره ليس طارئا على المعادلة الداخلية. فهذا كلام مكروه ومكرر ولا إبداع في تأليفه لأنه يعكس تلك الطائفية التكوينية لكيان اشتهر بتضاريسه المذهبية. فكل الأحزاب اللبنانية المعاصرة جمعت دائما بين هويتين الأولى تخاطب الطائفة والثانية تخاطب الوطن. وتكون المحصلة النهائية ذهاب الحزب نحو التوطن بالطائفة والتحصن بها والتموضع في مناطق انتشارها.
أي قراءة لتاريخ الأحزاب اللبنانية وتشكلها الطائفي والأيديولوجي تعطي النتيجة نفسها التي توصل إليها الجنرال عون في المبادئ التي أعلن عنها وخاطب من خلالها الجمهور الطائفي بهوية لبنانية والجمهوراللبناني بلغة طائفية. المحصلة إذا ترجّح في النهاية أنْ تكون طائفية يتخندق فيها الجنرال في ثكنة الطائفة التي يخاطبها بذريعة أنه الطرف المؤهل لحمايتها والقوة الوحيدة القادرة على استرداد مواقعها وحقوقها. فالجنرال كما يقول في مشروعه السياسي إنه ليس طائفيا ولكنه مضطر أنْ يكون كذلك بحكم كون آليات السياسة في لبنان قائمة على أسس طائفية. وهذا النوع من الطائفية الاضطرارية نجدها في نسخ مختلفة في خطابات ونصوص مختلف الأحزاب اللبنانية التي تتحدّث عن العلمانية أو القومية أو الاشتراكية أو الديمقراطية أو الليبرالية. فالكل في هذا المعنى التداولي سواسية في الرؤية أوالحراك أو في التعامل مع الفكرة «اللبنانية». فاللبنانية هي الفرع والطائفة هي الأصل والدولة واسطة أو وسيلة للوصول ولا تمثل تلك الهيئة التي تضمن الهوية التي لابدّ أنْ تشكل نقطة توازن لنجاح الفكرة .
لبنان كما يظهر في المشهد العام مجرد ساحة مفتوحة دوليا وإقليميا ومكشوفة للتجاذبات التي تطل عليه من الجهات الأربع. ومثل هذا المشهد يختصر الكثير من تلك الصور التي يتمظهر بها. الدولة ضعيفة والطائفة قوية وهذا يعني أن الفكرة اللبنانية سابقة لأوانها أو أنها لم تتطوّرأو تنضج كفاية لتصبح ذاك الوعاء السياسي الذي يحتضن الهوية المشتركة. وحين تتحوّل الفكرة اللبنانية إلى «فولكلور» تأخذ الطائفة مكانها وتبدأ بلعب ذاك الدور المؤثر في تحريك التوازنات السياسية في إطار دستوري اعتمد مبدأ الديمقراطية التوافقية وتوزيع الحصص على التكوينات المناطقية والمذهبية. وهذا بالضبط ما أراد الجنرال قوله من خلال تلك الرسالة السياسية التي أطلق عليها برنامج «المبادئ العشرة».
توصّل الجنرال إلى هذه النتيجة المخيّبة ليس جديدا ولم يصنعه في يوم واحد. فهو يقول، إنّها نتاج اتصالات عقدها في لقاءات واجتماعات مع فعاليات مسيحية. ولكن المراقب لخطاب الجنرال السياسي يجد أنّ تلاوينه الطائفية واللبنانية المزدوجة قديمة وتعود إلى فترة البدء في اشتغاله على موضوع الرئاسة. فالكلام الذي يردده يوميا ومنذ سنوات يجمع التعارض بين منطق الطائفة ومنطق الدولة. فهو رجل دولة إذا كانت تخدم مصالح الطائفة، وهو قائد طائفة إذا كانت تمنع الدولة من التقدم باتجاه تشكيل هوية جامعة. وهذا التفكير المزدوج لا يقتصر على الجنرال وحدَه وإنما نرى ما يماثله في خطب وتوجهات أمراء الحرب والمناطق والطوائف والمذاهب على أنواعهم السياسية الممتدة على مساحة الكيان الجغرافي.
التقسيم الفيدرالي
إلى أينَ يؤدّي هذا النوع من «التركيب الأيديولوجي»؟ إلى التقسيم. فالتقسيم هو النهاية المنتظرة أو المرجحة لهذا البلد الصغير والجميل. وكلّ الكلام عن فيدراليات مناطق أو اللامركزية أو التنمية المتوازنة يشكل ذاك الغطاء العصري لتنويعات طائفية ومذهبية تقليدية موزعة أو متموضعة في المحافظات والأقضية اللبنانية. وكل بحث عن صيغة فيدرالية أو كونفيدرالية تشبه سويسرا أو بلجيكا مجرد محاولة للتضليل الايديولوجي في اعتبار أنّ التكوين السيوسيولوجي لتاريخ الطوائف في لبنان يختلف عن طبيعة تركيب الكيانات السياسية في سويسرا وبلجيكا ومحيطها الأوروبي. والاختلاف في تاريخ التطور ومحيطه الجغرافي يشكل قاعدة اجتماعية لتوليد سيكولوجية طائفية مغايرة عن تلك التي تأسست قواعدها الدستورية في سويسرا وبلجيكا. فلبنان في نموذجه الذاتي أقرب إلى «العرقنة» وما استتبعه من إفرازات ذهنية متجانسة مع طبيعة الطائفة وحساسيات المذهب وخصوصيته.
التقسيم على مثال العراق هو النموذج الأقرب إلى الواقع اللبناني. لذلك فإنّ خطورة خطاب الجنرال المزدوج تكمن ليس في لغته وإنما في ظروفه والفضاءات الإقليمية التي تحيط به. فالخطاب يندرج تحت سقف سياسة التقويض الأميركية التي اعتمدتها إدارة واشنطن منذ اجتياح أفغانستان وغزو العراق وتقطيع أوصال لبنان في عدوان العام 2006.
خطاب الجنرال «الطائفي» و«اللبناني» ليس جديدا في لغته المزدوجة على سكان البلد الصغير والجميل وإنما خطورته تتأتى في توقيته وذهابه مع ذاك السياق العام الذي يزعزع أركان المنطقة ويقوض دول «الشرق الأوسط القديم» ويمزقها إلى دويلات «الشرق الأوسط الجديد». فالجديد في الفكرة أنها تخاطب ضمنا سياسة تقويضية اعتمدتها إدارة جورج بوش في التعامل مع قضايا المنطقة منذ نحو سبع سنوات. ومكمن قوة هذه السياسة أنها تستند إلى آليات موجودة أصلا في منطقة لم تنجح في التطور الاجتماعي أو النمو الاقتصادي لتأسيس قواعد عمل تسهل الانتقال من مفهوم الطائفة إلى الدولة. وهذا الضعف في البنيان الأهلي لسكان المشرق العربي وبلاد الرافدين أعطى تلك القوة السياسية لتمرير مشروع التقويض الذي يبدو أنه نجح في العراق ويراد الآن تعميم نموذجه على دول الجوار بدءا من لبنان.
خطاب الجنرال عون المزدوج (المسيحي واللبناني) الذي جاء بمناسبة فراغ مقعد رئاسة الجمهورية، يشكّل إشارة سياسية خجولة تعلن ضمنا عن الاستعداد لتقبل فكرة «العرقنة» وتأمين حاجاتها الضرورية لتسهيل تمريرها ونجاحها في بلاد الأرز. فالخطاب ليس جديدا في سياق لبنانية الطوائف وإنما أطلق في لحظة زمنية تشهد فيها المنطقة حالات ارتداد من هيئات دول غير مستقرة إلى «دويلات» منعزلة في دوائر متجانسة طائفيا أو مذهبيا يطلق عليها للتضليل «كونفيدراليات مناطق» كما هو الحال الذي وصل إليه العراق الآنَ
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1917 - الأربعاء 05 ديسمبر 2007م الموافق 25 ذي القعدة 1428هـ