يحدث في الديمقراطيات المتقدمة والكيانات التي تحترم تجاربها المؤسسية العريقة وأنظمتها الدستورية والتشريعية الرائدة أن يحدث انخراط الفرد أو المجموعة ضمن المجال أو الحقل العام بشتى الوسائل انفساحا كبيرا أمام الإبداع في ممارسة مختلف مجالات النقد والمتابعة والتفاعل الرقابي الشعبي مع سلوك وأداء وممارسة هذا الفرد أو المجموعة، فتتشكل لأجل ذلك الهيئات واللجان والمنظمات الشعبية المدنية التي تتولى مراقبة هذا الفرد / المجموعة ومحاسبته من دون عراقيل واحتجاجات!
أما فيما لو قرر الفرد/المجموعة الخروج واعتزال عمله ومسئولياته الاعتبارية ضمن المجال العام الذي يعني ويمثل مصلحة الجميع فينتقل إلى كيانه الفردي والخاص الأولي، فإنما الأمر يزداد صعوبة وتعقيدا أمام جملة من التشريعات الحقوقية التي تكفل لهذا الفرد المعتزل حماية خصوصيته وتحصينها بأفضل شكل ممكن!
ولعل الأمر يختلف ويتناقض بحدية في وضعنا المحلي الحافل بالارتجاع والتردي الانقلابي على تجربة إصلاحية رائدة في إعادة إحيائها ومازالت مع التسليم بكل ذلك في بواكيرها، فجميعنا اطلع ورأى وشاهد تلك التحركات السلبية من قبل بعض النواب وجماعاتهم على أمل المجازفة بمحاولات يائسة للحيلولة من دون إنشاء لجان أهلية في الدوائر الانتخابية من قبل البعض ما يزعجه أي تحرك نقدي ورقابي شعبي مسئول قد يوجه له ولأدائه، ويضعه تحت أفق المتابعة في السعي لتنفيذ ما ورد في برنامجه الانتخابي أو وثيقة العهد بينه وبين جماهيره وقبلها مع الله عز وجل!
طبعا ليس في ذلك البرنامج الانتخابي أو وثيقة العهد والضمان النيابي للمترشح الذي صار نائبا ما يدل على كون الرشوة «التقاعدية» تلك التي تجلطت ستكون ضمن صميم برامجه وأجندته التسويقية كممثل لـ «الأمة»، كما لا يوجد ما يدل على أن علاوة المكتب الـ750 دينارا المعلقة على رقبة النائب ستصبح في «احتياطي الأجيال الانتخابية القادمة» لصالح مستقبل أبناء الدائرة إذا ما كانت النوايا في منتهى حسنها وبهائها، والدنيا لاتزال عروسا وبخير!
وللأسف هناك من النواب من استشعر بحاسته السادسة أن إقامة مثل تلك اللجان الأهلية يشكل خطرا كبيرا وماحقا على استقرار كرسيه النيابي، فخرج على الملأ هو وحزبه متفلسفا بما يوحي بأنه إذا وصل نائب الدائرة إلى البرلمان فعلى كل ذات حمل أن تضع حملها، وعلى الولدان أن يشيبا، وعلى الناس أن يكونوا سكارى وإن لم يكونوا بسكارى أمام ذاك القدر النيابي الرهيب الذي وضع مترشحا وحده لا شريك له في مسئولياته وتمثيلياته تجاه الدائرة، إذ يأتي ذلك على رغم أننا نخبر أن نائبنا الفاضل من أهل التوحيد!
إنه بذلك إنما يريد أن يكتم أنفاس الحراك الاجتماعي والسياسي والخدماتي العام في دائرته حتى ينفخ في صور الانتخابات المقبلة، وعلى أهالي الدائرة والشعب أن يتحملا ميتة الجاهلية تلك لمدة أربع سنوات بعيدا عن كل ما يشعل الأمل بالحياة، وليكتفوا بالاطلاع على مساعي ومغامرات النائب من دون أن ينبسوا ببنت شفة، أو فليقدموا الاقتراحات تلو الاقتراحات لنائب من دون مكتب!
ولعل ما قاله أحد الزملاء في مقابلة له في إذاعة البحرين بشأن إنشاء اللجان الأهلية في المحرق ما يدحض ويفحم الكثير من الاحتجاجات المتوجسة من ساعة الحساب والرقابة الشعبية التي أرادت أن تجهض تلك التحركات المباركة التي من حق الجميع وبمثابة مطلب ضروري غير قابل للمزايدة قد يرقى إلى فرض كفاية سياسي واجتماعي، فصاحبنا النائب والكاتب والشيخ الفاضل قد كان مع زمرة المحتجين على إقامة تلك اللجنة الأهلية على رغم كونه سباقا ورائدا في إنشاء لجنة مماثلة في عهد النائب الأسبق حينما كان «منافسا مقهورا» قبل سنين!
هل هو ينكر على الناس حقوقا كان يزاولها سابقا بكل حرية مع متغيرات أخرى، وهذه المرة أراد محبطا أن يلبس كل من يتجرأ على ممارسة حقه الشرعي ذاك بشبهة ممارسة الثأر والانتقام من هزيمة نيابية، ولو كان ذلك الاتهام لا يغير شيئا أبدا ولا يوقف حقا مشروعا في نقد الأداء البرلماني والتوعية لأجل الصالح العام؟!
أخونا النائب الفاضل لم يفتح له مكتباُ «يحلل» فيه ذمة العلاوة النيابية، ولا يوجد حتى هنالك عنوان حقيقي كامل ومثبت لهكذا مكتب للنائب يستقبل فيه أفراد الدائرة وأفراد الشعب، ولم يكن للسكوت الطويل عن ذلك الأمر أن ينتهي لو لم يتم الإعلان عن اللجنة الأهلية بدائرته، فخرج لنا وهو المتقي الموحد بعدها ببدعة أو لنقل تقية سياسية جديدة جعل فيها مجلسه بمقر جمعيته السياسية التي ينتمي لها، والذي يقع في دائرة أخرى غير دائرته، وذلك على رغم كونه قد قدم أطروحات نقدية حامية في زمن مضى ضد بعض النواب من زعماء ورواد كتلته الحالية عن الموضوع ذاته!
وبالإضافة إلى كون هذا المجلس يقع في منطقة ونطاق آخر خارج الدائرة، فهو لا يخدم أبدا نائبنا الفاضل لكونه يرسل رسالات تعلن أن الأفراد هم من يسعون إلى النائب وجمعيته في دائرة أخرى، ويقعون تحت صفوف أجندتها وأهدافها وتوجهاتها الحزبية والسياسية، وليس العكس في ما لو كان هنالك مكتبا للنائب في دائرته الانتخابية يلتقي به الجميع ويشعرهم بأنهم هم المحور الرئيسي أولا وآخرأ وهم العجلة التي يدور بها حراكه ومسعاه البرلماني وليس الحزب أو التيار أو المصلحة الفردية!
رحم الله والدي من قال ذات يوم: «يقال أن للشيخ والكاتب والناقد المتوثب في المجالس والنائب الفاضل قامة رفيعة جدا تعلو على جميع اللجان الأهلية... لماذا إذا يعلن فجأة بعد عام من الانقطاع واستلام المخصصات أن له مجلسا في مقر جمعيته السياسية؟ لماذا (ينط) فجأة من دائرته و(ينبسط) في دائرة أخرى؟!».
أما وإن تعذر نائبنا الفاضل واقعيا بأنه قد وجد نفسه فجأة محصورا و»مرعوصا» مرة واحدة بين الدواعيس والفرجان المتهالكة في دائرته البائسة والعريقة، من دون أن يكون له مجلس يحل فيه ضيفا وسيدا، ويشكل له حضنا بديلا وبديهيا لاستقبال الناس باستعارية العمل المكتبي الوهمي، ويكون له وعاء ادخاريا لتأمين الـ750 دينارا أو «احتياطي الأجيال الانتخابية القادمة» لو وجد نفسه في أسوأ الأحوال منبوذا وغير مرغوب فيه من قبل الأصدقاء قبل المنافسين على سبيل المثال، فذلك والله نعم الابتلاء، وينبغي عليه أن يزداد حرصا على نصرة ذمته في ذلك الظرف «الجهادي» و»الابتلائي» العظيم، فلا يتنازل أبدا عن إقامة مكتب باسمه وبعنوانه الثابت (مكتب فلان، ص ب) ولو استأجر لأجل تلك التبرئة «اطبيلة» أو «شبرة» أو «دكان خباز»، أوحتى وإن لم يجد سوى الخرائب وأطلال البيوت الآيلة للإعمار بعد طول سقوط، فالأهم من كل ذلك أن يكون هو صاحب المبادرة بالالتقاء بالناس وبحث مشكلاتهم وشئونهم في أماكنهم الأقرب إليهم بدلا من مواعدتهم في دائرة أخرى وهو ما قد يشبه الموعد الغرامي في المجتمع المحافظ!
بمثل ذلك ربما يفلح النواب المؤمنون الذين هم لصلاتهم فاعلون، وعن التفلسف معرضون، ولذمتهم منتصرون، ولعلاواتهم النيابية مبرؤون إلا من ختمت الدولة على قلبه بختم الفاقة السياسية والمعيشية، فهل هم حينئذٍ مهتدون!
لو وجد نائبنا الفاضل غضاضة وغصة في تقبل تلك النصيحة الإيمانية الأخوية وأصر بالدخول مع كتلة حزبية سياسية يمثل دخولها «منكرا أصغر» لإسقاط «المنكر الأكبر»، فعليه أن يقبل قدرا بتدخل «منكر أصغر» من حجم منكر دخوله البرلمان، عسى أن يشكل هذا المنكر المتناهي في الصغر رادعا ومحاسبا له وممثلا فاعلا لتفعيل التطلعات الشعبية!
أليس ذلك أفضل بكثير من أن يجد نائبنا الفاضل نفسه فجأة وقد أصبح بقاؤه «منكرا» برلمانيا أكبر على حساب الوطن والمواطن، وهناك الكثير من تدخلات «المنكرات الأصغر» بكثير تسعى لإيقافه وطنيا عند حده وإرجاعه إلى صوابيته ومبدئيته الأولى وتحريره من ضرائب السياسة الموالية الموجعة في اقتصاصها من لحم الذمة والدين؟! وللحديث بقية..
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 1917 - الأربعاء 05 ديسمبر 2007م الموافق 25 ذي القعدة 1428هـ