فيلم «Beowulf» الذي يعرض حاليا في سينما السيف يتحدّث عن رجل أسطوري عاش في الدنمارك قبل 500 سنة من التقويم الميلادي. فالأسطورة مضى عليها أكثر من 2000 سنة، وهي لاتزال تخاطب العقل الجمعي لأهالي الشمال وسكّان الدول السكاندنافية. فهذه الشعوب التي انعزلت عن العالم جغرافيا بسبب طبيعتها الباردة أنتجت روايات وحكايات ليست بعيدة جدا عن تلك الأساطير التي اشتهرت بها مصر الفرعونية وبلاد النهرين وأرض كنعان ودلمون.
الكلّ عانى من الظروف المتشابهة. والكلّ طرح على نفسه الأسئلة الوجودية التي تتحدّث عن الحياة والموت والولادة والانبعاث والسلطة والقوة والضعف. وفيلم «بيوولف» يعطي فكرة موجزة عن لغة الأساطير والملاحم التي مرت بها شعوب الشمال. والمخرج الذي تناول تلك الحكايات على طريقته حاول أنْ يقدم تلك المشاهد القديمة من خلال روايات تناقلتها الذاكرة من خلال الشعر. سيناريو الشريط السينمائي عنيف ولكن العنف المحكوم بسقف الاسطورة يعطي رمزية لفترة زمنية اتسمت فعلا بتقديس القوة والخصوبة في آن. وتلك القداسة المجبولة بالدماء والصراع والتقاتل لا تختلف كثيرا عن أساطير منقولة من عهود الفراعنة وكنعان واشور ودلمون. فالعقل البشري الذي أنتج تلك الصور من المخيلة لا يختلف كثيرا حتى لو اختلفت طبيعة المناخ وتبدلت تضاريس الجغرافيا.
«بيوولوف» هو رمز وليس بالضرورة ذاك الرجل الذي وجد حقا. ولكنه يمثل في الذاكرة الجمعية ذاك البطل الذي قاتل الأشرار وهزمهم ثم انهزم في مواجهة امرأة. فالمرأة في الأسطورة الدنماركية (حكايات الشمال) ترمز إلى الخصوبة. وهي المكان الذي تولد منه عناصر الحياة وخصوصا البشر في مختلف أجناسهم ومستوياتهم. فالمرأة كالأرض تمثل الخصوبة. وإذا كانت الأرض تعطي الإنسان الخير وتوفر له المواد الأولية وتسعفه تربتها على الزرع والإنتاج. المرأة كذلك فهي تحتكر تلك القوة على الإنجاب ومن دونها لا مجال للحياة واستمرارالإنسان وتوالده.
هذه الاسطورة «الشمالية» لا تختلف كثيرا عن اساطير «الجنوب». فهناك الكثير من الحكايات التي تحاكيها وتقاربها في منطقها الرمزي أو في إطلالتها على المخيلة الإنسانية وقدرتها الخاصة على إنتاج تصورات عن عالم آخر يتسم بالغرابة يتطابق كثيرا مع حياة الإنسان على الأرض.
تشابه الأفكار بين عالم الشمال وعالم الجنوب يمكن رؤيته بسهولة من خلال متابعة تلك الرمزية الاسطورية التي تمثلها شخصية «بيوولف». فهذا الرجل قرر مكافحة الأشرار ومساعدة الناس على التخلّص منهم. وكاد أنْ ينجح في مهمته لو استطاع أن يهزم تلك المرأة (الخصوبة) التي تعيش وراء الجبال وتتخذ من الكهوف والبحيرات مركزا لها. ذهب البطل الاسطوري إلى ذاك المكان للقضاء على المركز/ الأم، ولكنه عاد مشوشا.
عودة البطل من دون إثبات يؤكّد نجاحه في مهمته الأخيرة أثار الشكوك ولكنه استطاع إقناع أنصاره بأنه حقق مراده من الرحلة. وتمر الأيام وتمر ويتبين أن «بيوولف» وقع أسير صفقة زواج انتهت بولادة طفل اسطوري عنيف. هذا الطفل اللاشرعي يدخل في صراع مع الأب (السلطة) للاستحواذ على عناصر القوة. صراع الأب مع الابن ليس جديدا على الفكر الاسطوري والمعاصر. ففي تاريخ اليونان (أساطير الإغريق) وثم الرومان هناك عشرات القصص المتشابهة. وهذه «الفكرة العالمية» يمكن أنْ تكون السبب الذي دفع المخرج إلى الاهتمام بهذه الاسطورة الشمالية. فالعالم كروي ولعل كروية الأرض توحّد خصوبة المخيلة وتجعلها متقاربة في خطوطها العامة. ولهذا السبب أظهر المخرج في زوايا الصورة ذاك الصليب (المسيحي) للإشارة إلى بدء انتشار المسيحية في الشال الأوروبي وحاجة الشعوب إلى دين متسامح لتلطيف تلك النزعة العنيفة وحب السلطة والتنافس على الثروة. وقائع حكايات الأسطورة حصلت قبل 500 سنة من ولادة المسيح. والمسيحية احتاجت إلى أكثر من 500 سنة أخرى لغزو أوروبا وإعادة إنتاج ثقافتها وثم تشكيلها في هيئة حضارية جديدة أبعدت الشعوب عن عنف الأساطير وجذبتهم إلى سير تتسم بالتسامح والعفو والاستعداد لتحمّل العذاب نيابة عن البشر.
فكرة الفيلم جيّدة؛ لأنّها نجحت في تقديم نموذج يحاكي تلك الأساطير الشرقية في معتقداتها وغاياتها وأهدافها. كذلك أعاد تركيب شخصية أسطورية في إطار عنيف يذكر الناس بأنّ الصراع على السلطة وحب التملك والسيطرة والاحتكار كلّها عناصر قديمة ولكنها لم تندثر أو تضمحل على رغم التحول إلى المسيحية. فالإنسان لايزال على حاله العامة مع تعديلات في الشكل والمظهر والنموذج. والقواعد المشتركة بين القديم والحديث لم تتبدل بدليل العناصرالأولى والبدائية للاسطورة لايزال يُعاد إنتاجها وتمثيلها في عصرنا.
قوة الفكرة لا تعني أنّ الفيلم لا يعاني من خلل في أكثر من موضع، ولكن المخرج نجح إلى حد كبير في استخدام الاسطورة للتغطية على ذاك النقص في التقنيات أو الضعف في السرد الدرامي. فالفكرة العامّة في النهاية وصلت ؛لأنها نجحت في مخاطبة ذهنية مشتركة على رغم اختلاف لغات الشعوب وحضارات الإنسان.
العدد 1917 - الأربعاء 05 ديسمبر 2007م الموافق 25 ذي القعدة 1428هـ