الحكومة الوطنية نوعان: واحدة تقبل الانتقاد والأخرى ترفضه. التي تقبل الانتقاد تقبل بمشاركة شعبية ويمكن تغييرها بواسطة المجتمع. الحكومة الوطنية التي ترفض الانتقاد وترفض مشاركة الشعب تلجأ لقمع المجتمع والسيطرة عليه عن طريق الاستبداد والدكتاتورية.
الحكومة التي تقبل الانتقاد منفتحة على شعبها ولديها مؤسسة تسمى «البرلمان» لتنظيم المشاركة الشعبية لضمان حق الشعب في ضبط السلطة.
البرلمانات، بجميع أشكالها، مستمدة من تجربة البرلمان البريطاني، الذي ربما يعتبر الأول في هذا المضمار. غير أن البريطانيين لم يخترعوا البرلمان، وهذه المؤسسة تطورت مع الأيام حتى أخذت شكلها المعاصر. ونظرة سريعة على كيفية تطور البرلمان في بريطانيا توضح المفهوم العام لهذه المؤسسة. ان تاريخ نشأة البرلمان في بريطانيا يوضح المفهوم السياسي للبرلمان الحديث المعتمد في جميع الدول العصرية.
- قبل ألف عام تقريبا، كان الملوك النورمانيين في بريطانيا (وأصلهم من فرنسا) يعقدون ثلاث اجتماعات في السنة. هذه الاجتماعات تجمع رجالات المملكة ويستشيرهم الملك قبل إصدار القوانين. وما بين هذه الاجتماعات يعتمد الملك على عدد من وزرائه (أو خدمه) الذين يعينهم بنفسه لتنفيذ القوانين التي أصدرها بعد استشارة أولئك الرجال الذين يدعوهم ثلاث مرات في السنة. غير أن هؤلاء الرجال (وهم ملاك الأراضي - بارونات ولوردات، وقساوسة، ومحاربين) فرضوا على الملك «جون» في العام 1215م أن يوقع «الميثاق العظيم» Magna Carta. ويعتبر هذا الميثاق أول وثيقة دستورية بريطانية نصت على عدم قيام الملك بفرض أي ضريبة قبل أن يحصل على موافقة المجلس المكون من القساوسة وملاك الأراضي (اللوردات). وحسب هذه الوثيقة فإن الملك إذا أراد أن يحصل على مساعدة مالية أو أراد فرض ضريبة فإن عليه أن يدعو لانعقاد هذا المجلس للموافقة على الطلب قبل أن يصبح قانونيا.
- في العام 1237م، أساء الملك هنري التصرف بالأموال وأبعد الوزراء ذوي الإدارة الحسنة وقرب إليه أعوانه (أكثرهم فرنسيون أقرباء للملك). وعندما طلب الملك هنري انعقاد المجلس واسمه حينها (The Common Counsel of the Kingdom) للحصول على المزيد من الضرائب، تقدم أعضاء المجلس بطلبات معينة لتحسين الأوضاع. وبالرغم أنهم وافقوا على إعطائه ما يريد من أموال، إلا أن طلبه رفض في الاجتماعات اللاحقة. فكلما جمع الملك أعضاء المجلس طالبا منهم المزيد من الأموال، تقدموا بشكاواهم ورفضوا الانصياع لطلبه ما دامت شكاواهم لا يستجاب لها.
- وهذا الوضع استمر حتى 1258، عندما وافق الملك على الانصياع للأعضاء وقبول النظر في شكاواهم. ومن أجل النظر في الشكاوى ومناقشتها اتفق الجميع على عقد اجتماع خاص سمي «البرلمان»... واسم البرلمان مشتق من الكلمة (Parley) وهي اصلها فرنسي وتعني «المناقشة من أجل التوصل لاتفاق». وهكذا أصبح طرفي النقاش: طرف يطالب بفرض ضرائب (الملك)، وطرف يطالب بالاستجابة للشكاوى (البارونات واللوردات). ولهذا أصبح دور البرلمان في الأساس هو فرض الضرائب والتشريعات مقابل الاستجابة للشكاوي.
- في العام 1264، رفض الملك ما تم الاتفاق عليه ولم تتحسن الأوضاع بعد أن أخذ الأموال، ما حدا بحدوث حرب أهلية انتهت بانتصار أعضاء المجلس (البارونات واللوردات)، وتم إلقاء القبض على الملك وولي عهده. وقام رئيس المنتفضين (سايمون دي مونتفورت) «Simon de Montfort» من مقاطعة «ليستر» بإصدار أوامر طالبا عقد البرلمان. غير أنه لم يستجب له جميع اللوردات والبارونات لأنهم كانوا في اختلاف وكان كثيرا منهم مع الملك. ولهذا اضطر أن يتوجه لقطاع آخر غير البارونات واللوردات إذ تقدم بالطلب لعمدة كل مقاطعة بأن يبعث باثنين من الناس العاديين إلى البرلمان، يتم انتخابهم من قبل الأشخاص القاطنين في تلك المنطقة (Commune). وهذه التسمية أصبحت (Common) لاحقا... ولهذا اصبح اسم البرلمان (House of Commons) .
- غير أن قائد الانتفاضة «سايمون» تم دحره من قبل القوات الموالية للملك بعد ستة أشهر من عقده لهذا البرلمان. ومن أجل أن يكسب الملك الجديد (سابقا ولي العهد) قام بتنفيذ عدد من الإصلاحات التي طالب بها اللوردات. غير أن الملك استدعى البرلمان ثلاثين مرة خلال 25 عاما من حكمه ولكنه لم يسمح لممثلي الشعب (Commons) إلا أربع مرات ولم يستدعهم إلا في الحالات الطارئة والقصوى، مثلا، عندما يحدث خطر ثورة ويريد الملك المزيد من الجنود للدفاع عن مملكته في وجه الثوار أو أن يطلب أكثر من المعتاد.
- وفي العام 1376م، تجرأ الأعضاء من القطاعات الشعبية (Commons)، ولأول مرة، بتوجيه الانتقادات الواحد تلو الآخر لوزراء الملك على سوء إدارتهم. وبعدها اختاروا متحدثا باسمهم (فأصبح هناك متحدث باسم البرلمان) ليلخص الانتقادات والاقتراحات وينقلها للأعضاء من قطاع ملاك الأراضي (اللورداتLords ). وطالب الأعضاء من القطاعات الشعبية (Common) من اللوردات (Lords)، أن يحاكموا ستة وزراء. ووافق اللوردات على ذلك وقاموا باستدعاء الوزراء ومحاسبتهم وحكموا على ثلاثة منهم بالطرد من المنصب بينما حكموا على ثلاثة آخرين بالسجن.
- غير أن الوضع عاد للسوء وفي العام 1397، وحينها تجرأ مرة اخرى أحد أعضاء البرلمان من الـ ( Commons) بالتقدم بمشروع قانون يعتمد أساسا على «شكوى» من «الكلفة الباهضة للعائلة المالكة». غير أن الملك أعلن أن مثل هذا الأمر خيانة عظمى، وأمر بمحاصرة البرلمان حتى تتم معاقبة الذين اقترحوا النقاش حول تكاليف العائلة الحاكمة. وأجبر الملك البرلمان أن يعطوا العائلة المالكة ما تريد وحكم لمدة عامين بصورة دكتاتورية مطلقة. ثم جاء بعد ذلك عهد ملكي آخر أصلح الأوضاع وأعاد احترام البرلمان حفاظا على أمن واستقرار المملكة. كما أن الملك أقر حرية الكلمة لأي عضو برلماني وأعطاه الحصانة ومنع ممارسة أي إهانة لأعضاء البرلمان، فأصبح لعضو البرلمان «حصانة داخل قبة البرلمان».
- حتى العام 1529، فإن البرلمان لم يكن يعقد إلا إذا احتاج الملك لمزيد من الأموال والضرائب، ولكن الملك هنري الثامن غيّر الوضع. فقد أراد أن يطلق زوجته ولكنه البابا (رئيس الكنيسة الكاثوليكية) رفض ذلك. فقام الملك هنري باستدعاء البرلمان وأعلن نهاية سلطة البابا على الكنيسة الكاثوليكية وأسس الكنيسة «الانجيلية» وأعلن نفسه رئيسا لتلك الكنيسة. غير أن عملية فصل الكنيسة عن البابا استغرقت سبع سنوات اضطر الملك فيها السماح لأن يواصل البرلمان جلساته لإكمال إصدار التشريعات من أجل فصل الكنائس في بريطانيا عن البابا. وفي العام 1533، انفصلت الكنائس البريطانية عن البابا بعد ألف عام من العلاقات المباشرة تحت السلطة الدينية الكاثوليكية وأعلن الملك نفسه رئيسا للكنيسة الانجيلية، وبهذا أصبح الملك له السلطة الدنيوية والسلطة الدينية في بريطانيا.
- في العام 1621، وفي عهد الملك جيمس حصلت عدة خلافات بين أعضاء البرلمان والملك. فكل مرة يتم استدعاء البرلمان للانعقاد لمناقشة أمر يحدث خلاف بين الملك الذي كان يريد المال والضرائب فقط وبين أعضاء البرلمان (اللوردات والقطاعات الشعبية) الذين يحاسبون وزراء الملك ويناقشون السياسات. وعندما أراد الملك جيمس تزويج ابنه لبنت ملك أسبانيا وقف البرلمان ضد ذلك لأن بريطانيا كانت في عداء مع أسبانيا ولأن الملك الأسباني «كاثوليكي» بينما بريطانيا تتبع المذهب «البروتستانتي» المنفصل عن سلطة البابا. غير أن الملك بعث لهم رسالة قائلا: «يجب ألا تتدخلوا في أسرار الدولة». الا أن أعضاء البرلمان في «House of Commons»، أصدروا قرارا قائلين «إن كل شأن يخص الملك، أو الدولة، أو الدفاع عن المملكة، هو شأن كل البرلمانيين الذين يملكون حرية التعبير دون خوف من العقاب». قام الملك بتمزيق ما أرسله الأعضاء وأمر بحل البرلمان واعتقل عدد من أعضاء البرلمان.
- بعد موت الملك جيمس، جاء ابنه الملك تشارلز الأول وطلب من البرلمان الاجتماع من أجل الضرائب إلا أن البرلمانيين رفضوا ذلك ما لم يتم الاستماع لمطالبهم، وطالبوا بمحاسبة أحد وزراء الملك. وفي العام 1628، كتب أعضاء البرلمان عريضة وجهوها للملك قالوا فيها «لا يجوز إجبار أي فرد على أن يقدم هدايا، قروض، ضريبة، أو أي مال إلى الملك دون موافقة البرلمان، ودون إصدار قانون برلماني بذلك. ولا يجوز اعتقال أي شخص دون سبب واضح يعرض على البرلمان».
- كانت الانتخابات تتم وفي كل مرة يتم استدعاء البرلمان للانعقاد. ولكن البرلمان الذي انتخب أعضاؤه في 1640، بقي عشرين عاما لأن المهام التي استلمها تطلبت مواصلة الجلسات بصورة حثيثة غير متقطعة. وربما كانت هذه أطول فترة برلمانية عرفها تاريخ البرلمانات. وقام البرلمانيون باستعراض جميع ما يقوم به وزراء الملك. غير أن أحد الأعضاء (أوليفر كرومويل Oliver Cromwell)، استعرض أيضا جميع أخطاء وسوء تصرفات الملك ذاته، وطالب بإصلاح نظام الملك ونظام الكنيسة، وطالب بأن تتم الموافقة على أي وزير قبل ان يعينه الملك. ووافق البرلمان على هذه التشريعات. غير أن الملك طالب بمحاكمة خمسة أعضاء برلمان ردا على طلب البرلمانيين محاكمة 12 قسيسا. بعدها ذهب الملك ومعه حرسه واقتحم مجلس العموم وطلب اعتقال الخمسة أعضاء بنفسه.
- أدت هذه الحادثة لانفجار الحرب الأهلية بين أنصار الملك وأنصار البرلمان، وانتصر البرلمانيون بقيادة أوليفر كرومويل في العام 1645، وتم إعدام الملك تشارلز الأول. ويعتبر هذا أول انتصار لسلطة البرلمان على سلطة الملك بصورة حاسمة (ومن حينها يمنع على أفراد العائلة المالكة دخول مجلس العموم، بينما يسمح لهم بدخول مجلس اللوردات).
- بعد تقلبات واضطرابات سياسية عدة، استطاع البرلمان أن ينظم عمليته ومسيرته عبر ثورة دستورية سلمية، في العام 1689، اطلق عليها مسمى «الثورة المجيدة» ، اذ تم توضيح معظم البروتوكولات وأصبحت العلاقة بين الملكية والبرلمان واضحة المعالم. وتغيرت العائلة المالكة الى فرع كان يعيش في المانيا (والفرع ذاته يمثلون العائلة المالكة في بريطانيا حاليا). وفي العام 1730، تم استحداث منصب «رئيس الوزراء»، الذي يعتبره البرلمان المسئول الأول عن جميع الوزراء. على رغم أن أول رئيس وزراء (Robert Walpole)، لم يكن يختار وزراءه بنفسه، إلا أن كلمته كانت مسموعة لدى الملك. والوزراء الذين عينهم الملك كان قد استشير رئيس الوزراء بشأنهم.
- بعد الثورة الفرنسية (1789)، والثورات المماثلة في القرن الثامن عشر، أصبح البرلمان مؤسسة أساسية ومطلبا مهما للحد من السلطة المطلقة. وتطورت مؤسسة البرلمان لتشمل عددا من النظم (نظام المجلسين أو نظام المجلس الواحد) كما تم اعتماد جميع الأسس الضرورية لتسيير العملية البرلمانية مثل حصانة الأعضاء، محاسبة الوزراء، طرح الثقة بالحكومة، إصدار التشريعات الوطنية، الانتخابات الدورية لأعضاء البرلمان، توزيع المناطق الانتخابية، الفصل التشريعي وضوابطه، طرق حل البرلمان.
- تم تضمين العملية البرلمانية في الدساتير الحديثة للدول بصورة واضحة ودون التباس. وتشمل انشطة البرلمان: تكوين لجان البرلمان الدائمة والمؤقتة، وتنظيم عملية المداولات والمناقشات وطرح السؤال والاستجواب، والرقابة المالية، والتحقيق، وإصدار القوانين، الخ. وأصبح البرلمان جزء لا يتجزأ من المؤسسة العصرية للدول بجميع أشكالها. والبرلمان تعبير عصري عن حق المجتمع (الذي سينفذ القرارات) في ممارسة دوره المشروع لضبط السلطة التنفيذية ولتقرير شئونه بصورة جماعية وعلى أساس منطقي في التعامل مع القضايا المعقدة لإدارة شئون المجتمع.
العدد 1917 - الأربعاء 05 ديسمبر 2007م الموافق 25 ذي القعدة 1428هـ