سريعا انفض مولد «سي أنابوليس»، لم يخلف وراءه الا كثيرا من الإحباط وقليلا من الأمل؛ لأن أصول الأشياء وصميم الصراع لم يحرز تقدما من أي نوع، فإن كنا من المتشائمين، فإننا ندعو الله أن يحقق آمال المتفائلين، لكي نعرف على أي مسرحية كانوا يتفرجون... بل يشاركون.
الآن علينا أن نعود إلى حيث يجب أن نعود، إلى داخل بلادنا، التي تتعرض بقوة لعمليات تفكيك وتمزيق حادة، تزيد التخلف وتقوي تحالف الفساد والاستبداد، ولو لم يكن هذا الداخل بهذا الضعف العام، لما انعكس وهنا وضعفا على مواقف ممثلينا في «أنابوليس»، فقد ذهبوا إلى هناك وهم يعلمون والعالم كله يعلم أن أياديهم خاوية، لأن بيوتهم خالية من أسس القوة الذاتية، تلك التي تتردى يوما بعد يوم.
هكذا شهدنا على مسرح أنابوليس، كيف مارس الرئيس الأميركي قوة المشرف أو القائد العام أو بطل المسرحية الأول، ولم يكن ذلك نابعا من قوته الشخصية، فهو رئيس في اضعف حالاته وأواخر أيامه، لكنه كان نابعا من قوة دولته ومجتمعه، وكذلك فعل ايهود اولمرت رئيس وزراء «إسرائيل»، فهو أيضا في أضعف حالاته، لكنه مارس «الاستعراض» السياسي، وهو يمشي وهو يتكلم وهو يعظ ويطلب ويشترط... أما العكس فكان من نصيبنا للأسف!
والسبب هو ضعف الداخل وتردي القوى الذاتية لبلادنا ومجتمعاتنا، التي تعاني التفكيك المنظم وغير المنظم، وهنا سيقفز في وجوهنا من يقول إن التفكيك مؤامرة أجنبية حاقدة، هدفها تمزيق بلادنا وتفتيتها إلى دويلات وكانتونات على أسس عرقية ودينية وطائفية، وهذا صحيح فالمؤامرة قائمة وفاعلة، وانظر إلى ما يجري في العراق وفلسطين ولبنان والسودان والصومال، بل وتأمل بعمق ما هو قادم في مصر والسعودية وسورية وغيرها.
نعم صحيح أن مؤامرة الخارج الطامع لتفكيك دولنا موجودة، ولكن التفكيك الداخلي هو المؤامرة الأخطر؛ لأننا نحن الذين نصنع التفكيك بأيدينا، ونمارسه ونحرض عليه ونجري نحو نتائجه المرعبة برغبة عارمة!
وأظن أن جوهر التفكيك الداخلي هو الظلم والقهر والفساد، المولد للفقر والبطالة المتزايدين، فإذا بالحليفين التقليديين يجتمعان كالعادة، القهر السياسي والقهر الاجتماعي، وما لم نبدأ بمحاربة هذا التحالف الشرير، فإننا لن نتمكن لا من وقف التفكيك وإفشال مخططاته الداخلية والأجنبية، ولا من حتى البقاء عاجزين كما نحن، طافين ظاهريا على سطح الماء، لا نقدر على السباحة طلبا للنجاة، ولا نستطيع صيانة الطفو حتى لا نغوص فنغرق نهائيا!
صرفتُ وقتا طويلا خلال الأيام الأخيرة، أتأمل الحملة السياسية والإعلامية في مصر، التي تتحدث عن العدالة الاجتماعية... حسنا ها هم الساسة المصريون يتذكرون معنى كانوا يكرهونه ويصفونه بأنه من مخلفات الستينات، عصر عبدالناصر، المكروه عند البعض، رمزا ومعنى اسما ورسما...
بعد أكثر من ثلاثين عاما من تغيير التوجهات السياسية والاقتصادية، وإنكار شعار دولة الرعاية الاجتماعية، وإعادة توجيه البوصلة المصرية نحو الغرب بسياساته وتوجهاته ومبادئه الرأسمالية، من الخصخصة إلى اقتصاد السوق، ومن إعادة الهيكلة إلى تخلي الدولة عن مهامها الرئيسية في رعاية الفقراء من توحش رأس المال الجامح، ها هو شعار العدالة الاجتماعية يطل علينا من جديد، في فأل نراه حسنا ونتمناه واقعا ونلحّ عليه سريعا، لكي يعتدل الميزان...
المسئولون التكنوقراط الحاكمون المتحكمون، يقولون إن مصر مثلا قطعت خطوات هائلة في النمو الاقتصادي، وفي توسيع مجالات العمل بعد انطلاق القطاع الخاص وبيع القطاع العام، وفي الاندماج في الاقتصاد الدولي، وفي استثمار عوائد العولمة، وفي إعادة بناء مؤسسات الدولة والمجتمع...
والمؤكد أن بعض ذلك صحيح، لكن بعضه الآخر خطأ... لأن ثلاثة عقود كاملة من الإصلاح الاقتصادي، كان يجب أن تنعكس بشائرها بالخير على المواطن المصري المطحون والمقهور، فإن لم ينعكس النمو الاقتصادي الذي تتباهى به الحكومة على المواطن العادي، فإنه نمو كاذب لاقتصاد عاجز، وانظر إلى الأرقام الموثوقة التي تقول إن 48 في المئة من الشعب المصري أصبح الآن تحت خط الفقر، وتقول الحكومة إن الرقم هو 28 في المئة فقط، وان متوسط دخل الفرد المصري أصبح 4200 دولار في العام... ولكن علينا أن نقارنه بمثيله في «إسرائيل»، وهو يكاد يلامس 24.5 ألف دولار، أو بنظيره في الإمارات العربية المتحدة وهو 24 ألفا، أو البحريني بمعدل 20.7 ألفا...
وهكذا نجد أن مصر تحتل المركز 111 بين دول العالم في مجال التنمية البشرية، بينما تحتل «إسرائيل» المركز 23 عالميا... والمعنى الذي نريد توضيحه أن مصر بكل المقاييس لم تحقق التقدم الاقتصادي ولا التنمية البشرية الموعودة، وبالتالي لم تتحسن الأوضاع المعيشية للمواطن المصري، بل زادت الأعباء على كاهله، من غلاء الأسعار الفاحش إلى البطالة المتزايدة، فإذا بمساحات الفقر تتسع، وإذا بميزان العدالة الاجتماعية يختل، بدرجة تهدد بتفكيك المجتمع إلى أغلبية ساحقة من الفقراء وأقلية ضئيلة من الأثرياء، إلى جيوش من العاطلين المحبطين، إلى تقسيم ظالم بين من يملك ومن لا يملك، بين من يجمع الثروة والسلطة في قبضته ومن يقهره الظلم السياسي والفقر الاقتصادي الاجتماعي...
فأي مستقبل ينتظرنا إن سرنا على المنهج الظالم ذاته، حتى لو ظللنا نطنطن للديمقراطية وندندن بالعدالة الاجتماعية باعتبارها شعارات سياسية إعلامية، تذروها الرياح، بينما الواقع في اتجاه آخر يحفر خنادق عميقة بين طبقات المجتمع وفئاته... يمهد لتفكيكه وتدميره من الداخل!
ولا يجادلن احد بأن مظاهر الثراء في المجتمع المصري أصبحت ظاهرة واضحة، نتيجة نجاح السياسات الحكومية في الإصلاح الاقتصادي، وان القدرات الشرائية تتعاظم، مشيرا إلى التسابق في دفع الملايين في الإسكان فوق الفاخر من شقق وفيلات، وفي اقتناء المنتجعات الباذخة، وفي ازدحام «المولات» الراقية بآلاف المشترين، وفي إنفاق الملايين في ليلة فرح واحدة...
نعم هذا واضح لا ينكر، ولكنه لا يعبر عن الواقع الاجتماعي، فكم نسبة هؤلاء القادرين الباذخين إلى مجموع الشعب المصري، بل إلى نسبة العاطلين في القرى والمدن، كم هي نسبة الأغنياء إلى الفقراء، لماذا تهاوت حتى تلاشت الطبقة الوسطى، ومن أين وكيف راكم بضع عشرات أو مئات كل هذه الأموال الهائلة... هل من الإنتاج الزراعي والصناعي، أساس التقدم الإنساني... هل من تجارة وصناعة المعرفة والعلم والتكنولوجيا الحديثة، أساس التقدم الإنساني الراهن... أم من المضاربة على الأراضي ومن أموال المصارف المنهوبة، ومن شراء القطاع العام بعد إفساده وإفلاسه، أم من منافذ أخرى للاقتصاد الأسود المعروف؟!
هنا يكمن معيار التنمية والتقدم وإقامة العدالة الاجتماعية مع الحرية السياسية، بديلا للقهر السياسي والظلم الاجتماعي المؤديين حتما إلى تفكيك الوطن والأمة...
بعيدا عن مجتمعات الرفاه في دول أوروبا وأميركا الشمالية، هناك تجارب رائدة في دول أميركا اللاتينية التي تشابه أوضاعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية مع أوضاعنا... وقد قرأت أخيرا دراسة مهمة في المجلة الأميركية ذائعة الصيت «فورين افيرز» (الشئون الخارجية)، عدد نوفمبر/ تشرين الثاني وديسمبر/ كانون الأول 2007، بشأن التطورات الإيجابية والإصلاحات السياسية والاقتصادية في هذه الدول، ما انعكس على تحسن الأوضاع الاجتماعية...
وإذا كانت دولة مثل كوريا الجنوبية في شرق آسيا قد حققت في البداية طفرتها الاقتصادية والصناعية، تحت نظام دكتاتوري، فإن تجارب دول أميركا اللاتينية الآن، تحقق نجاحا سياسيا بإقرار الديمقراطية وانجازا اقتصاديا واجتماعيا بإقرار الإصلاح الوطني الحقيقي... فأرست المؤسسات الديمقراطية وأجرت الانتخابات النظيفة واندمجت في الاقتصاد الدولي، وكبحت غول الفساد والجريمة ولجمت معدلات التضخم، وأزاحت النظم الدكتاتورية والفاشية، حتى أن دولا مثل فنزويلا والأرجنتين والبرازيل وبوليفيا والإكوادور ونيكاراغوا وأوروغواي تحكمها نظم تقدمية ديمقراطية تطبق العدالة الاجتماعية، وتحكم بالديمقراطية...
كما أن دولا مثل المكسيك والبرازيل، وهما من أكثر الدول تضخما بالسكان وتعقيدا في العلاقات الاجتماعية، تمكنتا خلال العقد الأخير (1996 - 2005) من تحقيق طفرة في ميزان العدالة الاجتماعية المصحوبة بالديمقراطية السياسية، فتمكنت المكسيك مثلا من تخفيض نسبة الفقر إلى نصف ما كانت عليه من قبل ذلك التاريخ...
وكذلك فعلت البرازيل بسد فجوة التفاوت الاجتماعي بنسبة مرموقة... وهذا كله أمر يلفت نظر الأخ الأكبر والجار الأهم، الولايات المتحدة التي طالما عاثت فسادا وإفسادا في هذه الدول، فإذا بها تهتم بدراسة ومعرفة أساليب هذا الإصلاح السياسي الاجتماعي، الذي يكفل العدل مع الحرية، لشعوب عانت من الفاشية والدكتاتورية والتخريب والنهب الاقتصادي، الذي أفقرها إلى حد الجوع... ثم الثورة والتمرد...
ليتنا ندرس مثل هذه التجارب الناجحة الناجزة، لنعرف كيف نجمع بين الإصلاح السياسي الديمقراطي والإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، بين الحرية والعدالة الاجتماعية الحقيقية، طريقا لمقاومة الفقر والعجز وتحالف الفساد والاستبداد، المؤدي حتما إلى التفكيك ونشر الفوضى الخلاقة أو المدمرة!
خير الكلام: يقول الشاعر:
ولم أجِبْهُ لاحتقاري له
مَنْ ذا يعضُّ الكلب إنْ عضّا
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1916 - الثلثاء 04 ديسمبر 2007م الموافق 24 ذي القعدة 1428هـ