أعلنت قوى «14 آذار» بعد جلسات عاصفة عن موافقتها على تعديل الدستور اللبناني وانتخاب قائد الجيش رئيسا للجمهورية. الموافقة جاءت كما يبدو اضطرارية وأحدثت انقسامات مبدئية بين مجموعاتها التي توزعت على جناحين: الأول تمسك بسياسته معتبرا أن التخلي عن المواقف المبدئية لأسباب مرحلية سيؤدي إلى خلخلة تلك الخصوصية اللبنانية. الثاني طالب بإعادة النظر في الإعلانات العامة لاعتبارات سياسية فرضتها متغيرات واقعية تتجاوز الكيان اللبناني.
بين المبدئية والواقعية ظهرت تلاوين سياسية لا علاقة لها بالرئاسة وشخصية الرئيس وموقعه ودوره ومناقبه وإنما تتصل بمجموعة أصول لابد من التمسك بها حتى لا يفرِّط لبنان بتلك الخصوصية التي تميزه عن الأنظمة التي تحيط به.
التيار المبدئي لا ينتمي إلى حزب واحد أو طائفة واحدة وإنما يتوزع على مجموعة أطراف اتفقت على ضرورة حماية الدستور اللبناني من التلاعب السياسي وتطويعه خدمة لأغراض شخصية أو مرحلية. فهذا التيار محق في توجهاته العامة لأنه يرى أن مسألة الدستور لا تخضع للأهواء والرغبات وإنما تشكل ذاك الحصن الذي لابد من حمايته لمنع الاختراقات السياسية المحلية والإقليمية والجوارية والدولية.
اعتراضات هذا الفريق صحيحة لأنها تقوم على اعتبارات مبدئية تقرأ المستقبل من خلال رؤية تستند إلى وقائع وتجارب سابقة. ومخاوف هذا الفريق ليست مختلقة لكونها تعتمد على خطوات اتخذت سابقا بذريعة الظروف والمستجدات الآنية وتحولت لاحقا إلى عادة سياسية بدأت حين قرر الرئيس الراحل إلياس الهراوي تمديد عهده نصف ولاية لتعويض النقص الذي أصاب فترة رئاسته بسبب استيلاء الجنرال ميشال عون على قصر بعبدا إلى خريف العام 1990.
هذا الطلب السياسي الذي ترجم إلى «خطأ» دستوري تحول إلى قاعدة استخدمها الرئيس السابق إميل لحود واستند إليها لتمديد عهده نصف ولاية، الأمر الذي أثار المعارضة آنذاك وشكلت بسببه قوة ضغط سياسية مانعت التوجه وحاولت التصدي له برلمانيا وفشلت.
تعديل المادة 49 من الدستور عنوة أطلق شرارة محلية ودولية وأحدث انقسامات تولدت عنها اجتهادات وقراءات ولكنه في النهاية أعطى ذريعة للدول الكبرى بإصدار قرار كارثي عن مجلس الأمن أدى إلى وضع لبنان تحت سقف التدويل وساهم لاحقا في زعزعة استقراره وتوريطه في سلسلة تجاذبات إقليمية وأهلية لم يخرج منها حتى الآن على رغم خروج «الذريعة» من القصر الجمهوري.
هذه المسألة تشكل نقطة قوة للتيار الممانع لفكرة تعديل الدستور. وحجة هذا التيار ترى أن الموقف الصحيح الذي اتخذ في العام 2004 لايزال على صحته ولا يجوز الإطاحة به وتعطيله لحسابات مؤقتة وضيقة. فالتعديل «لمرة واحدة فقط» قد يتحول إلى عادة سياسية وربما تشجع الرئيس الذي سينتخب على طلب تمديد ولايته ثلاث سنوات إضافية بعد انقضاء عهده الدستوري.
إلى ذلك، يطالب التيار المبدئي المخالف لفكرة تعديل الدستور دوريا بإبقاء المؤسسة العسكرية خارج اللعبة السياسية وتنافس الأطراف على شغل منصب الرئاسة. ورأي هذا التيار في هذه المسألة يستند أيضا إلى نقطة قوية وهي أن لبنان نجح في عزل السياسة عن الجيش وأسس علاقات متوازنة تضمن عدم تدخل المؤسسة العسكرية في الحياة الدستورية مقابل عدم تدخل السياسة في الشأن العسكري. هذا الفصل بين المدني والعسكري أعطى لبنان تلك الخصوصية وعطل على الطامحين إمكان حصول انقلابات عسكرية تطيح باللعبة الديمقراطية. كذلك ساهمت هذه الخصوصية في توليد رؤية تقوم على احترام الدستور وقواعد تداول السلطة تحت سقف حماية الدولة من العبث بأمنها واستقرارها.
مخاوف التيار المبدئي تنطلق من قناعات سياسية تريد تأكيد تلك الثوابت حتى لا يتحول الدستور إلى نص لا قيمة اعتبارية له. فالتعديل الاستثنائي سيتحول إلى سابقة تشجع على اختراق القانون دائما وتجعل من فقرة «مرة واحدة فقط» إلى «مرة إلى الأبد». وهذا النوع من الاختراق الدستوري سيؤدي أيضا إلى حركة سياسية متتابعة ستشجع المؤسسة العسكرية على التدحل في الحياة المدنية وستحد كثيرا من الحريات العامة التي اشتهر بها البلد الصغير.
مخاوف سليمة
المخاوف إذا صحيحة سياسيا وسليمة في توجهاتها الدستورية في اعتبار أن سابقة اختيار قائد الجيش رئيسا للجمهورية ستؤدي إلى وضع قواعد جديدة للحياة البرلمانية وستحد من الخيارات المتاحة أمام القوى النيابية. والاختيار الذي تم التوافق عليه «مرة واحدة فقط» ربما تحول في المستقبل إلى اختيار ثابت سيتم التوافق عليه «إلى الأبد». وهذا الاحتمال السلبي ليس مستبعدا، لأنه ربما يشجع على تكريس قاعدة غير برلمانية وهي أن كل قائد للجيش يصبح مرشحا للرئاسة والخيار الأقوى للقوى النيابية في حال وجدت نفسها أمام احتمال حصول «فراغ» لأسباب أمنية أو تدخلات خارجية.
المسألة إذا ليست في الشخص وإنما في المبادئ العامة التي اعتمدها الكيان اللبناني منذ تأسيسه رسميا في العام 1920. فالجيش منذ استقلال الدولة اعتمد خطة عدم التدخل في الحياة المدنية العامة معتبرا نفسه مؤسسة محترفة ولها واجبات كثيرة منها حماية الدستور. وتدخل الجيش في الحياة السياسية الذي ظهر تباعا منذ انتخاب لحود رئيسا سيورط المؤسسة في مهمات غير عسكرية وسيعطي لقائد الجيش المقبل شرعية التفكير بالترشح لمقعد رئاسة الجمهورية. وهكذا يصبح المؤقت خطوة دائمة وسيتحول كل قائد للجيش إلى صورة مصغرة لمشروع الرئيس المقبل للجمهورية.
التيار المبدئي المعترض على فكرتي تعديل الدستور «لمرة واحدة فقط» واستبعاد كل الخيارات وحصرها في قائد الجيش «فقط» ينطلق فعلا من قراءات تفترض احتمالات قد تحصل في المستقبل وتهدد سمعة لبنان وموقعه ودوره الخاص في إنتاج قواعد اللعبة السياسية وما تعنيه من ضرورات دستورية لصون الكيان والديمقراطية.
واجه هذا التيار ذرائع مضادة اعتمدت على نوع من الواقعية السياسية التي ترى في انتخاب الرئيس اللبناني مجموعة مركبة من تدخلات دولية وإقليمية ليست بالضرورة متوافقة مع خصوصية الكيان واللعبة الديمقراطية والشروط الدستورية. واستند تيار التوافق على حل وبأي ثمن إلى مجموعة محطات اضطرارية مرَّ بها لبنان خلال أزماته الدستورية سواء في عهد بشارة الخوري (استقال من الرئاسة) أو في نهاية عهد كميل شمعون (تكليف قائد الجيش فؤاد شهاب بالمنصب) وصولا إلى الجنرال لحود الذي فرض غصبا على المؤسسة النيابية.
تيار «14 آذار» الذي وافق على تعديل الدستور وانتخاب قائد الجيش رئيسا يتذرع بالظروف السياسية والتهديدات الأمنية التي قد تعرض الكيان إلى الانهيار وغيابه عن المسرح الجغرافي للمنطقة. وحجة التيار الذي دعا نوابه إلى التوجه إلى المجلس الجمعة المقبل تعتمد على مجموعة اعتبارات غير دستورية ولكنها ضرورية لإنقاذ الجمهورية من سلبيات «الفراغ». وأهم تلك السلبيات هي انقسام البلد نصفيا إلى كتلتين تتجاذبان الشارع طائفيا ومذهبيا. وهذا الانقسام النصفي منع النواب من انتخاب رئيس في الموعد الدستوري وعطل البرلمان واشترط «نصاب الثلثين». وكل هذه العوامل اجتمعت لوضع البلاد أمام خيارات محددة يصعب تجاوزها لأنها ستؤدي إلى تفجير الكيان من الداخل وتوزيعه على هيئات مناطقية تشبه ذاك النموذج الذي أسسه الاحتلال الأميركي في العراق.
المشكلة إذا بدأت حين تم اشتراط «نصاب الثلثين» في بلد منقسم نصفيا. وحين يكون البلد عرضة للتجاذب النصفي يصعب على أي فريق تأمين «الثلثين». وهذا بالضبط ما أودى بالقوى إلى الوصول إلى منطقة «الفراغ»، والاضطرار إلى إعادة التفكير بالتعديل وانتخاب قائد الجيش لإنقاذ البلد من الانقسام النصفي.
هذه المشكلة السياسية/ الدستورية اعتمدها فريق من «14 آذار» لتبرير الأسباب الموجبة التي دفعته إلى تغيير قناعاته المبدئية والارتداد إلى «مربع» ربما يساهم الآن في تمرير الاستحقاق الرئاسي ولكنه سيشكل في النهاية سابقة قد تهدد مستقبل الديمقراطية وما تمثله من التزامات قانونية لرعاية وضمان قواعد اللعبة واشتراطاتها المدنية.
انقسام فريق «14 آذار» بين تيار الواقعية السياسية وتيار التمسك بالشروط المبدئية للقواعد الدستورية يشكل خطوة سلبية ويعطي إشارة قد لا تكون لمصلحة الديمقراطية التي يتفاخر بها البلد الصغير.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1915 - الإثنين 03 ديسمبر 2007م الموافق 23 ذي القعدة 1428هـ