اختلف أهل العلم هل أنّ خطب الحج ثلاث أم أربع خطب، فالمتفق عليه عندهم اثنتان، الأولى هي خطبة يوم السابع من ذي الحجة، والثانية هي خطبة يوم عرفة، أمّا الخطب المختلف فيها فهي خطبة يوم النحر وخطبة ثاني أيام العيد، والخلاف في الثالثة ليس في أصل ثبوتها بل في موقعها هل هي يوم العيد أو في أوّل أيام التشريق.
وسواء أكانت الخطب أربعا كما انتهى إليه الشافعي أم ثلاثا أم غير ذلك فأنا أودّ الحديث عن ضرورة التبصر والالتفات إلى مصالح المسلمين في محتوى هذه الخطب.
لقد تعددت وسائل التوجّه في أيام الحج وتنوعت فشملت الكتب وأشرطة الكاسيت والأقراص المدمجة وغير ذلك من النشرات والمطويات التي يراها الحاج في كلّ زاوية ومكان بمختلف البقاع والمحطات التي يقصدها الحجاج، ابتداء بالمدينة المنورة على ساكنها وآله وصحبه أفضل الصلاة والسلام وانتهاء بمنى في أواخر أيام الحج، وبين هذه وتلك هناك مكبرات صوت صغيرة تسمعها في كلّ ساحة أو شارع مليء بضيوف بيت الله الحرام.
ومع أنّ المشهد في عمومه مفرح من حيث الاهتمام بتوجيه الحاج، وإحاطته بما يهمّه من أحكام الحج، وفقهيات المناسك التي سيؤديها، فإنا بودي أنْ يتفاعل معي القارئ في بعض الإشارات التي أراها جديرة بالاهتمام والتأمل.
الإشارة الأولى
إنّ كل القاصدين لأداء مناسك الحج يبدأون مناسكهم بلبس ثوبي الإحرام وبالتلبية، حيث تعلو الأصوات بمختلف اللغات وهي لهجة وفرحة ومرددة (لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك، إنّ الحمد والنعمة لك والملك، لا شريكَ لك لبيك) أمام هذه الحناجر، والقلوب التائقة لذكر الله، (التي بذلت مالها وأتعبت جسدها حتى تصل وتقف هذه المواقف، بفطرة صافية وثقة بالله عالية) سأكتب سؤالا برسم الخدمة، هل علينا أنْ نتعامل مع الحج كمحطة دعوية؟ أو علينا أنْ نتفاعل معه كمحطة تعزيزية وتثبيتية لقلوب المسلمين؟ فالذين يقولون لبيك اللهم لبيك هل يحتاجون إلى الدعوة بمعناها الخاص أو يحتاجون إلى الثقة بدينهم؟ فتكون الأحاديث معهم متناسبة مع الحشد الإلهي المليوني؛ ليشعر كلّ واحد منهم أنّ دينه وإسلامه عزيز بالله أوّلا ثم بهؤلاء الملبين المتحدين في اللباس والمنسك والقلب.
إنه لفرق كبير بين الكاسيت الدعوي والكاسيت التوجيهي، وجزء مهم من الفرق هو في نظرتنا للحاج كما أشرت، هل هو بحاجة إلى دعوة؟ أو أنه انتهى من هذه المرحلة وتجاوزها وحاجته الحقيقية هي إلى خطاب يحفزه على تفعيل دينه في حياته وتصرفاته ونظرته لمَنْ حوله وما حوله؟
الإشارة الثانية
من المهم أنْ تكون كلّ النشرات الإعلامية والتوجيهية والتثقيفية والدينية، وكذلك الخطب التي تعد وتلقى على أسماع الحجاج الذين جاءوا من كلّ فج عميق جامعة ومؤلفة بين القلوب، ومليئة بالرحمة والتراحم بين المسلمين، لينة الجانب خالية من القسوة والشدة والغلظة، فالمسلمون أحوج ما يكونون للكلمة الجامعة وللتآخي فيما بينهم، فدواعي التباغض ومحرّضاته كثيرة، والعدو الذي يسهر عليه ويبذل ماله وجهده لإحداث الشروخ والانقسامات في أمّة الإسلام واضح بيّن وإنْ تغنّى بالشعارات البرّاقة والديمقراطية الكاذبة.
إنّ الأيام الروحانية والجميلة التي يقضيها الحجاج في بلادنا هي فرصتنا الثمينة التي نبذل لهم فيها ما أراده الله لهم من مصالح الدنيا {ليشهدوا منافع لهم}، والقرب من الله سبحانه وتعالى {وليذكروا الله}، ولعلّ أهم مصلحة في زماننا هذا نهديها لضيوف الرحمن هي أنْ نحاول تقريب القلوب إلى بعضها وزرع المحبة بينها.
الإشارة الثالثة
تختلف مدارس المسلمين الفقهية، فهم وإنْ كانوا ينهلون ويغترفون من مصدر واحد، إلا أنّ الاجتهادات مختلفة، وإمكانات الاستنباط ليست متساوية بين عالم وآخر، كما أنّ الظروف (التي لها أشد الأثر في استنباط الحكم الشرعي) متنوّعة ومتغايرة، وكذلك البيئة الفكرية التي ينتمي إليها هذا الفقيه أو ذاك قد لا تكون بنفس المكونات والمناخ والتضاريس.
هذا الاختلاف بدوره سينعكس على نتائج عملية الاستنباط، وسنرى أنفسنا أمام أحكام فقهية مختلفة، لعلماء لا نشك في نزاهتهم وعلمهم وجهدهم الذي بذلوه للوصول إلى هذه الأحكام.
غنيّ عن القول إنّ المسلمين موزعون بين هذه المدارس والآراء الفقهية، الأمر الذي يتطلب أنْ تكون وسائل الإرشاد والتوجيه والتوعية في الحج جامعة لمختلف الآراء الفقهية كي يجد كلّ حاج مبتغاه، ويأتي بنسكه مطمئنا أنه أدى ما عليه من التكليف الشرعي.
إننا بذلك لن نخسر شيئا بل سنكسب وستربح بلادنا ثقة الحاج، الذي جاءها فأكسبته علما وفقها وخلقا وعاملته باحترام سينعكس بلا ريب على مجمل حياته وفهمه للأمور.
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"العدد 1914 - الأحد 02 ديسمبر 2007م الموافق 22 ذي القعدة 1428هـ