الذين خططوا لمؤتمر انابوليس كانوا يعرفون منذ البداية أنهم ينظمون حفلة علاقات عامّة بين العرب الموسومين بالمعتدلين وبين الدولة العبرية التي بدأت «تشحذ» تطبيعا ولو شكليا مع العالم العربي الذي يعج بالغضب والحنق والكراهية ليس فقط لهذا الكيان المصطنع بل وانتشرت هذه الكراهية؛ لتشمل كلّ ما يمت بصلة إلى الحليف الاستراتيجي أو بالأحرى الحامي الأوّل لهذه الدويلة النشاز وسط البحرالعربي الإسلامي؛ أي الولايات المتحدة الأميركية!
لذلك لن يكون مفاجئا لمنظمي المؤتمر إذا ما خرج العرب منه محبطينَ وعادوا من حيث أتوا حاملينَ معهم خفي حنين! ذلك لأن الهدف الثاني من وراء هذا المؤتمر هو وضع الحكومات العربية في حال أكثر حرجا مع شعوبها، بمعنى آخر وضعها بين المطرقة الأميركية وسندان شعوبها الغاضبة والحانقة حتى يتسنّى للإدارة الأميركية المتهاوية، تعديل موقعها العام من خلال مزيد من ممارسة الابتزاز على الأصدقاء والحلفاء المعتدلين وثانيا إجبارهم على تقديم تنازلات إضافية في مجالات كثيرة أهمّها الطاقة ومزيد من الحشد ضد الجارة «الأخطر»؛ إي إيران بعد أنْ تكون «إسرائيل» قد تحوّلت إلى «جار طبيعي» كما يحلمونَ!
أمّا الطرف الفلسطيني «المصدّق» أو المتأمّل خيرا من هذا المؤتمر فسيكون أكثر الخاسرينَ وأكثر المتفاجئين أيضا، ذلك لأنّه سرعان ما سيكتشف أنّ الإدارة الأميركية التي تتشدق منذ الدورة الأولى لها بأنها حريصة على إقامة دولتين ديمقراطيتين متعايشتين إسرائيلية وفسطينية - كما يردد الرئيس بوش - بأنّ أوّل مَنْ سيسحب البساط من تحت رجليه ويتركه وحيدا في صحراء النقب يبحث عن الماء والكلأ، بحجّة أنّ الوضع الفلسطيني الذي يفتقر إلى سيطرة جماعة انابوليس الفلسطينية عليه، لا يساعد مطلقا على تحقيق مثل هذه الفكرة «المثالية» في العام 2008 بحسب وعود بوش الجديدة، وبالتالي فإنّ على هذا الفريق المعتدل أنْ يعود إلى دائرة الاقتتال الداخلي مرّة أخرى حتى يحسم معركة التمثيل الفلسطيني أوّلا، ولمّا كان ذلك مستحيلا فإنّ الصوت الإسرائيلي سرعان ما سيعود عاليا بأنه: لا يُوجد شريك فلسطيني حقيقي للسلام يستأهل التضحية من أجله أو تقديم «تنازلات» مؤلمة تجاهه!
الإدارة الأميركية المتعثرة في أكثر من ملف وأكثر من موقع في العالم سيكون مؤتمر انابوليس بالنسبة لها مناسبة إضافية لمحاولات تحسين الصورة! التي فشلت في تحقيقها كلّ مَنْ أنيطت به هذه المهمّة من الموظفين وسرعان ما استقال، لكنها ومن باب رفع العتب خارجيا وتسجيل النقاط داخليا على الحزب الديمقراطي وعلى الرأي العام الذي يطالبها بوقف مسيرتها الحربية مع العالم، ومن باب رسم صورة وداعية «محسنة» للرئيس بوش بعد كلّ ما أصابها من تشوهات وانكسارات في أفغانستان والعراق، ستخرج من المؤتمر وكأنها في حل من أية مسئولية إضافية تجاه هذه القضية الأخطر من قضايا النزاعات العالمية والتي قررت إدارة بوش مثلها مثل كلّ مَنْ سبقتها من الإدارات ترحيلها إلى من بعدها، وعدم الاكتراث بما ينتج عن ذلك من تداعيات ولاسيما في السنة الأخيرة من العهود الرئاسية!
الرابح الأكبر وربما الوحيد الذي سيخرج من هذا المؤتمر مسترجعا بعض هيبته ويوم إضافي لبقائه في سدّة الزعامة بعدما كان يتهاوى وكان يفترض أنْ يكون في سلّة المهملات الإسرائيلية وليس العربية والفلسطينية فضلا عن اللبنانية سيكون ايهود اولمرت وبعض بطانته وحاشيته ومَنْ تبقى من جنرالات الدويلة التي مُرّغ أنفُها في تراب الجنوب اللبناني وكان يفترض أنْ تودّع الحياة السياسية بعد زلزال الهزيمة المدوّية العام الماضي!
يمكن القول إذا إنّ مؤتمر انابوليس لم يكن سوى غرفة «انعاش» كاذبة ومؤقتة لمجموعة من المهزومينَ أو المرشّحينَ للهزيمة في التاريخ القريب من الإسرائيليين والأميركيين المنهكين الذين يكادون يفارقون الحياة من شدة الانهاك، أريد للعرب والمسلمين أنْ يلعبوا دور «المحلل» في مهمّة إعادة الحياة المؤقتة لأولئك، والعاقل مَنْ أفلت من هذه المهمّة، حتى لا يختنق معهم ويبقى بعيدا عن الطوارئ؛ ليتنفس مدّة أطول في ظل الأجواء الطبيعية!
لكن الخطر الأكبر الذي يلوح في أفق السماء الفلسطينية بعد المؤتمر بالإضافة إلى ما ذكرناه آنفا وهو الاقتتال الفلسطيني، والذي طالبت فيه القيادة الإسرائيلية علنا من خلال ما سمّته ضرورة تفكيك المنظمات «الإرهابية»! هو أن يقدّم الصهاينة الأكثر تطرفا وفي أوّل فرصة يتسلمون فيها مقاليد القيادة بعد أولمرت المتهاوي مهما «انعش» مؤقتا، إلى تنفيذ مخطط الترانسفير الشهير؛ أي تسفير عرب الـ 48 أي آخر ما تبقى من شهود على الاغتصاب التاريخي لفلسطين التاريخية من هناك بذريعة أنّ العالم أقرّ في مؤتمر انابوليس بأن «إسرائيل» هي «الوطن القومي للشعب اليهودي»! كما قال بوش في خطاب الافتتاح، وهو بالمناسبة كان وعدا ليس أقل خطرا من وعد بلفور إنْ لم يكن أخطر منه؛ لأن الوعد الجديد أعلن على رؤوس الأشهاد وبحضور و»قبول» عربي وإسلامي فضلا عن مصادقة دولية!
من هنا يحمل مؤتمر الخريف الأميركي للسلام المزعوم في طيّاته على مخاطر جمّة للفلسطينين إنْ لم تحصّن الساحة الفلسطينية سريعا بالحوار الفوري والعودة بأسرع ما يمكن إلى اتفاق مكّة وحكومة الوحدة الوطنية من خلال تقديم التنازلات المتبادلة بين الفلسطينين أنفسهم مهما تكن «مؤلمة»! هذا بالإضافة إلى ضرورة إعلان تحفظ واضح وصريح من الطرف الفلسطيني المشارك أوّلا ومن ثم من قبل المشاركين العرب والمسلمين كافة على الوعد المشئوم الجديد واعتباره غير ملزم بل وباطل ومستنكر ولا يمكن أنْ تترتب عليه أية التزامات، حتى لا يُوضعون في خانة شهود الزور- لا سمح الله-!
في مثل هذه الحالة فقط سيتساقط المتآمرون من الإسرائيلين والأميركيين، وسيسقط هذا الوعد المشئوم الجديد كما تسقط أوراق الخريف! ويكون العرب والمسلمون ومعهم أطياف الشعب الفلسطيني المختلفة قد أعادوا الفريضة الغائبة منذ مدّة طويلة فيما بينهم ألا وهي فريضة التضامن العربي والإسلامي، تلك الفريضة التي بتنا اليوم بحاجة ماسّة إليها أكثر من أي وقت مضى!
إنّ حالة التشرذم التي تعيشها الساحة الفلسطينية لا يجوز أن نتركها تتفاقم مهما تطلب وقفها من أثمان باهظة! وكذلك حالة الفرقة والانقسام العربي - العربي أو العربي - الإسلامي، ذلك لأن الفطريات الإسرائيلية والأميركية السامة لا تعيش ولا تنمو إلاّ على هذه الحالة المرضية الشاذة والخطيرة والتي يأمل كلّ مسلم وعربي وفلسطيني شريف ومخلص أنْ تزول حتى يستعيد جسم الأمّة عافيته بالسرعة اللازمة قبل فوات الآوان!
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 1913 - السبت 01 ديسمبر 2007م الموافق 21 ذي القعدة 1428هـ