كتب أحدهم عددا من المقالات، بينها مقالان، عنوان الأول «مناقشة الشيخ عيسى قاسم في أستاذية الغرب»، والمقال الآخر، «مناقشة الشيخ عيسى في أن الغرب أكثر تطورا منا». وبصراحة تامة، ومع احترامي الكاتب، إني لست ممن يقرأ له، وإنما أرسل إلي بعضهم المقالين لقراءتهما. ولست صدد الدفاع عن أحد، سواء الشيخ عيسى أو غيره، ولكن فاجأني الكم الهائل جدا من المغالطات الصارخة في مقالات الكاتب، حتى ليشعر المرء كأنه في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من الخبط الموجود في المقالين، ومن الغريب حقا كتابة كل هذه الفوضى ونشرها على الملأ. وحتما تحتاج إلى تصحيح، فليس من المسئولية السكوت عن هذا التزوير لكل شيء باسم النقد وحرية الرأي.
عبارة الشيخ التي قال فيها إن «حضارة الغرب المادية الخاوية في أصولها من القيم السماوية العالية>>، (لاحظ دقة عبارة: في أصولها)، ردّ عليها الكاتب على أن «الحضارة الغربية ليست خاوية في أصولها من القيم»... وهذا ليس ردّا كما يزعم الكاتب؛ لأنه حذف في رده عبارة «السماوية العالية»، وربما ناتج ذلك من الارتباك في الطرح، فالفرق جلي، ولكن لو اعتبرناه ردّا كما أراد صاحبه، فسيكون هذا كشفا جديدا في عالم الفكر لم يسبق الكاتب إليه أحد، حتى أحد من مفكري الغرب يقره على هذا الزعم، إذ كيف لا تكون الحضارة الغربية في أصولها حضارة خاوية من القيم السماوية العالية، على حين النظام الاجتماعي «قام على الإيمان بالفرد إيمانا مطلقا» لدرجة الادعاء أن إطلاق الغرائز المادية في الأفراد كفيلة بتحقيق مصلحة الجماعة. ولهذا جاءت النظم الحياتية مفسرة على أساس النوازع الذاتية المادية، فمثلا على مستوى النظام الاقتصادي النابع من تلك الحضارة، يرى منظروه أن اجتماع الحرية المطلقة للأفراد مع وجود النوازع الذاتية وحب الأنا، كافية لتحقيق الصالح العام من دون الحاجة إلى استثارة الجانب الإنساني الذي يستحث الفرد على التنازل عن شيء من جهوده وما يملك لمصلحة المجتمع وإسعاد الآخرين. والقيم التي يتحدث عنها الشيخ عيسى هي القيم السماوية العالية، وليست قيم المادة التي لم يخرج عن نطاقها الكاتب في رده وهو يعدد المخترعات التي سهلت الحياة والمعيشة ويبرز معلوماته عمن فاز بتصميم الأزياء، وكرة القدم.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، إن دفاع الكاتب المستميت عن الغرب، دفعه أولا إلى التأكيد زورا وبهتانا أو غفلة... إلخ أن الحضارة الغربية ليس خاوية في أصولها من القيم السماوية العالية، وبعد ذلك اندفع لا يفرّق بين القاعدة وبين الشاذ عنها، حين قال: «نعم يوجد في الغرب سلبيات لكن يوجد قيم ومثل، ولا يخلو مجتمع في العالم من قيم ومُثُل ومبادئ. ليس كل الغرب مع الإباحة والانفتاح ففي الغرب أيضا ملتزمون بالعهود والمواثيق وبالمبادئ والتعميم ليس صحيحا». مع أن عبارة الشيخ تقول: «إن حضارة الغرب»، ولم تقل: واقع الغرب، والبون شاسع والفرق كبير بين هذه العبارة ورد الكاتب عليها. فحضارة الغرب في أصولها، حضارة مادية بغض النظر عن بعض الأوضاع الشاذة عن تلك الأصول في الواقع المعاش هناك. بالضبط كما نقول: إن حضارة الشرق المسلم حضارة مثل وقيم سماوية عالية وأخلاق، حتى لو كان جزء من واقع المجتمعات الإسلامية - كَثُر أو قلّ - خلاف ذلك، ولا يمكن الزعم أن حضارة المسلمين حضارة مادية تدعو إلى عبادة الغرائز الدونية في ضوء بعض الأوضاع العملية المخالفة للحضارة الإسلامية في أصولها.
إن التجارب وحدها التي مرّت بها الشعوب الغربية، جعلتها تتراجع عمليا عن بعض الآثار التي خلّفتها تلك الأصول الفكرية المادية للحضارة الغربية. وكلمات مفكري القرن الثامنَ عشرَ والتاسعَ عشرَ تزخر بآثار تلك الأصول، كتصريحاتهم المتوحشة التي تنفي حق الفقير والعاجز في الوجود، وتبرر سحقه وتخلص الطبيعة منه التي تأبى أن يكون لهؤلاء المعوزين مكانٌ في عالم تم امتلاكه سابقا. إن حضارة الغرب المادية لم توفر حتى الإنسان الغربي، فضلا عن آثارها السلبية كاستعمار الشعوب الأخرى ونهب ثرواتها وسحقها، ولم يحدث التغيير الحقيقي في حياة الغربيين، إلا عندما تفجرت الثورة البلشفية في روسيا سنة 1917م، فبعد عشرين عاما، قفزت روسيا إلى مصاف الدول الصناعية الرأسمالية، وفي الثلاثينات، اشتدت أزمة الكساد التي ضربت أميركا ابتداء من العام 1929م، وتبعتها الدول الرأسمالية المتقدمة الأخرى، وحدثت بطالة رهيبة وعوز. حينها تخلى الغرب عن أهم أسس فلسفته، وهو ترك الناس أحرارا من دون تدخل في حياتهم الاقتصادية، فتبنت الدول الرأسمالية الصناعية في أربعينات القرن الماضي أفكار المفكر الاقتصادي جون كينز الذي أكّد وجوب تدخل الدولة في الشأن الاقتصادي. حتى الضمان الاجتماعي بدأ فقط في أربعينات القرن الماضي ابتداء من أميركا وبريطانيا (كما يذكر أحد الباحثين). وقد كان للوضع المعيشي المميز آنذاك للعمال في روسيا الشيوعية وباقي الدول الشيوعية، أثرٌ في تسريع ساسة الغرب لهذه الإصلاحات لصالح الضعفاء من الشعب؛ خوفا من امتداد أعناقهم إلى ما ناله نظراؤهم من العمال في الدول الشيوعية.
لقد تراجع الغرب بفعل التجربة التي أثبتت خطورة هذه النزعة المادية الشرسة، فتدخلت الدولة في تقديم الخدمات على مستوى الصحة والتعليم وغيرها، وإلا فحتى فكرة الدولة في الأصل وتبعا للفكر الذي قامت عليه الحضارة الغربية، تستهدف حماية الأفراد ومصالحهم، وتقتصر على الأمن الداخلي والخارجي وفرض القانون.
في المقال القادم نعرض للكثير من المغالطات في التاريخ والمفاهيم التي ساقها الكاتب.
إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"العدد 1913 - السبت 01 ديسمبر 2007م الموافق 21 ذي القعدة 1428هـ