بعد انفضاض أعمال «مؤتمر أنابوليس» في الولايات المتحدة بدأت التحليلات الصحافية تسرّب معلومات عن إمكان حصول تحوّلات في سياسة جورج بوش. وتذهب تلك القراءات إلى القول إنّ نجاح المؤتمر أعطى دفعة معنوية لمدرسة «الواقعية السياسية» وأحبط محاولات عودة تيار «المحافظين الجدد» إلى موقع إدارة سياسة «البيت الأبيض».
حتى الآنَ لا تملك تلك التحليلات الصحافية معلومات دامغة تؤكّد هذا الاحتمال، ولكنها تجمع تقريبا على وجود مؤشرات تغلب اتجاه الانفتاح واعتماد الدبلوماسية وسيلة لمعالجة الأزمات الساخنة في العالم وتحديدا في دائرة «الشرق الأوسط». فهل فعلا سيرى العالم ذاك الوجه الآخر من صورة بوش؟ وهل بات الرئيس على قناعة تامة بأن الوقت قد حان للبدء في تغيير الصورة؟ وهل بإمكان الرئيس في السنة الأخيرة من عهده تجميل سياسته والتعاطي العقلاني مع تعقيدات داخلية ودولية؟
من الصعب أنْ تكون الأجوبة واضحة ونهائية. فالكلام عن السياسة الأميركية «الجديدة» يحتاج إلى براهين وأدلّة ويتطلب بعض الوقت لاختبار تلك التوجهات الجديدة ميدانيا.
النوايا لا تكفي وإنما الوقائع التي يمكن ملاحظتها على الأرض ويرجّح أن تظهر ملامحها في الأسابيع المقبلة. والوقائع لا تشير إلى وجود تحسّن يذكر في مجال احتمال تغيير التوجهات العامّة. فالرئيس الذي جاء إلى السلطة بناء على ترتيبات داخلية قادتها لوبيات النفط (الطاقة) والتصنيع الحربي (المؤسسة العسكرية) وأسواق المال لا يمكن له أنْ يخالف مصالحها ويعمد إلى تفكيك أجهزتها وشبكاتها الضاغطة من دون التوصّل إلى تفاهم معها.
قرار الرئيس لا يكفي لإعطاء إشارة التغيير؛ لأنّ الخطوة ستكون مشروطة وربما محكومة بمدى استعداد أجهزة الضغط على قبولها أوعلى الأقل التعامل معها كأمر واقع ومن دون تشنج. وهذا الأمر يحتاج إلى الرد على سؤال: هل وصلت شركات النفط ومؤسسات التصنيع الحربي وأسواق المال إلى مرحلة الإشباع وباتت على قناعة بأن ما اكتسبته في السنوات السبع الماضية يكفيها لمدة معقولة؟
بوش خلال عهده أعطى هذه الأجهزة أكثر مما توقعته. فالموازنة العسكرية (الدفاع) قفزت من 265 مليارا إلى أكثر من 416 مليارا. والمصانع الحربية اشتغلت ليل نهار لتأمين حاجات السوق وتلبية طلبات الجيش الأميركي في «حروبه الدائمة» من أفغانستان إلى العراق وصولا إلى العدوان الأخيرعلى لبنان في صيف 2006.
كذلك يمكن توصيف حال شركات الطاقة (التنقيب والنقل والتكرير). فهذا اللوبي اكتسب ثروات هائلة واكتنز المال بسبب ارتفاع أسعار النفط مئة في المئة في فترة تقل عن سبع سنوات. والفورة النفطية التي تشهدها الأسواق العالمية أعطت حيوية لشركات الطاقة وأنقذت بعضها من انهيارات في أسواق المال. والأمر نفسه يمكن سحبه على موضوع البورصة وأسعار الأسهم والعقارات وحركة النقل والتصدير. فأسواق المال التي شهدت الصعود والهبوط استقرت ضمن حدود تأمين الأرباح المطلوبة لتشجيع الاستثمار وتوسيع رقعة التوظيفات النقدية وبيع سندات الخزينة لسد العجز الهائل في ميزان المدفوعات والتجارة الدولية. حتى موضوع تراجع قيمة صرف الدولار ليس سيئا لدولة منتجة وتعتمد على التصدير لتسويق بضاعتها ومضاربة أوروبا في عملية التنافس.
كلّ هذه الفوائد التي جنتها اللوبيات خلال السنوات السبع الماضية جاءت في معظمها نتاج سياسة «الحروب الدائمة» التي اعتمدها بوش لتغطية ضغوط وحاجات مؤسسات التصنيع الحربي وشركات الطاقة وأسواق المال. فالحروب السياسية التي أعلنها الرئيس اقتصادية في جوهرها، وهي لم تنطلق أصلا من خيار فردي بقدر ما كانت نتاج تحالف «الكارتيلات» والشركات المتعددة الجنسية ومؤسسات الاحتكار. فالمصلحة العليا للدولة اقتضت تلك الضرورات وفرضت خياراتها السياسية على الرئيس. وبوش في هذا المعنى الداخلي شكّل ذاك الوكيل «الشرعي» لتحالف اللوبيات التي تخوفت من احتمال تراجع مكانة الولايات المتحدة في حال لم تستغل تلك اللحظة التاريخية التي تمثلت في غياب المنافس الدولي.
لوبيات وتحالفات
هذا التحالف الاقتصادي عزز موقع تيار «المحافظين الجدد» وربطه بالقوة الانتخابية لتيار «التحالف المسيحي» الذي يحتل الآنّ موقع «الحزب الثالث» ويدير عمليات التصويت من وراء الكواليس. وبسبب تداخل المصالح الاقتصادية مع توجهات أيديولوجية تأسست إدارة بوش على قاعدة الربط بين الطرفين خدمة لمصلحة الدولة العليا. فالدولة وجدت في الفراغ العالمي مناسبة لبسط سيادتها الإمبراطورية ومنع أوروبا من التقدّم لأخذ مكان الاتحاد السوفياتي كذلك الحد من نمو الصين وتطوّر طموحاتها وانتقالها من الاقتصاد إلى السياسة.
إدارة بوش لم تكن من اختراع الرئيس بقدر ما كان الرئيس يشكّل تلك الإدارة الطيِّعة لتنفيذ سياسة صنعتها تحالفات داخلية تعتمد على قاعدتي: الاحتكار الاقتصادي ونزعة «أيديولوجية دينية».
نجح هذا «الكوكتيل» في تشكيل صورة هجومية عسكرية عبّرت عن نفسها في خطاب لفظي عنيف لا يكترث للمعايير الدولية ولا يحترم توازن المصالح ولا يرى في الدبلوماسية سوى محاولة لتعطيل دور أميركا وحقها الطبيعي في تصدير نموذجها وربما تغيير هيئة العالم.
هذا الهجوم تعرض خلال تجارب السنوات السبع الماضية إلى التحطيم وتشوهت صورة الولايات المتحدة وتحوّلت إلى خصم لقوى مختلفة لا تقتصر على العالم العربي/ الإسلامي وأنما أخذت تمتد لتشكل جبهة عالمية مضادة موجودة في أميركا اللاتينية وآسيا أوروبا وروسيا الصاعدة مجددا.
الآنَ بدأت إدارة بوش تراجع أسباب الفشل والعوامل التي اجتمعت ضدها وعطلت عليها إمكانات مواصلة تلك السياسة الهجومية. ولكن المراجعة لا تعني أنّ أميركا أصبحت ضعيفة وغير قادرة على خوض مغامرات جديدة، كذلك لا تعني أنها لا تستطيع اتخاذ قرارات غير محسوبة لقلب الموازين باتجاه يخدم مصالح ذاك التحالف الداخلي الذي تأسس وفق قواعد أيديولوجية ومصالح اقتصادية.
مسألة التغيير تحتاج إلى وقت حتى لو ظهرت وقائع «مؤتمر أنابوليس» وكأنها خطوة ترجِّح خط المدرسة الواقعية على حساب رغبات تيار «المحافظين الجدد». فالرئيس بوش لا يستطيع التحرك من دون إعادة القطع مع ذاك التحالف الايديولوجي - الاقتصادي الذي شكّل قاعدة صلبة لإدارته. كذلك لا يستطيع اتخاذ قرار نهائي بهذا الشأن إذا لم يبادر إلى ربط إدارته بشبكة جديدة من اللوبيات البديلة التي تستطيع أنْ تشكّل له تلك الحماية المطلوبة لتسويق سياسته الجديدة في حال قرر السير في هذا الطريق.
الكلام الصحافي الذي سرب معلومات عن إمكان حصول تحولات في سياسة بوش بحاجة إلى تدقيق وربما فرصة زمنية للاختبار. ونجاح «أنابوليس» بالمعايير الأميركية لا يعني إمكان نجاحه في المعايير الدولية والإقليمية و «الشرق الأوسطية». فالمؤتمر جاء ليلبي حاجات داخلية ونجح جزئيا في اختراقها وتكوين رصيد معنوي للإدارة ولكن التغيير الإستراتيجي في تحريك المصالح العليا للدولة يتطلب مجموعة عوامل داخلية مشروطة بمدى استجابة اللوبيات والكارتيلات والتكتلات الأيديولوجية لحسنات هذا التوجه المفترض. وهذا الأمر لا يمكن الحكم عليه بناء على مصافحة جرت بين وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس والوفد السوري المشارك في «أنابوليس»، كذلك يصعب استنتاج تلك التحولات من تحليلات صحافية وقراءات متسرعة لمعاني هذه الابتسامة أو تلك المهاتفة. فهذه تعتبر إشارات ولكنها تبقى جزئية في اعتبار أنّ حسابات الدول لا تبنى على تلك الحركات الدبلوماسية والتصرّفات الشخصية.
الأجوبة إذا ليست واضحة ونهائية بشأن إمكان ظهور بوش في وجه جديد «وديع» أو«جميل». فالمسألة تحتاج إلى وقت وتعتمد على اختبارات ميدانية وعيِّنات سياسية ولكنها أصلا تقوم على قراءة داخلية للتوازن القائم بين اللوبيات والأجهزة والمؤسسات المحلية. وهذا كله يخضع لسؤال واحد: هل وصلت شركات الطاقة ومؤسسات التصنيع الحربي وأسواق المال إلى مرحلة الإشباع ولم تعد بحاجة إلى مزيد من حروب الانقضاض أو التوسّع أم أنها لاتزال جائعة ونهمة وتحتاج إلى مغامرات تضيف إلى خزائنها المزيد من الأرباح والثروات وتراكم رأس المال؟
الجواب عن السؤال يشكّل الرد النهائي والواضح لتأكيد أو نفي تلك الاحتمالات التي رددتها تحليلات صحافية تشير إلى وجود متغيرات في السنة الأخيرة من عهد بوش.
الإشارات بهذا الصدد لاتزال حتى الآنَ قليلة وضعيفة وربما تكون مؤقتة. ولكنها وهذا هو الجديد في المسألة أصبحت موجودة ويمكن ملاحظتها في أكثر من مكان. وحتى تتبلور تلك الإشارات في استراتيجية جامعة وشاملة فإنها تحتاج إلى وقت. ووقت بوش قصير. وهذه قد تكون مشكلة تمنعه من الانتظار وربما التغيير.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1913 - السبت 01 ديسمبر 2007م الموافق 21 ذي القعدة 1428هـ